سقوط الدولة العباسية
محتويات
العباسيون
ترجع أصول العباسيّين إلى العباس بن عبد المطلب عمّ الرسول الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم-، ودولتهم هي الدولة الخلافية الثانية، التي وصلت إلى سدّة الحكم بمساعدة أنصار الدعوة العلوية، عندما قام أبو العباس السفاح بالقضاء على الأمويين ومظاهر سلطتهم بطريقة دموية، وبمساعدة أخيه أبي جعفر المنصور اتّخذا التدابير اللازمة لتقوية السلطة العباسية، وأنشؤوا مدينة بغداد مركزًا للخلافة العباسية، وبلغت هذه الدولة أوجها في جميع الجوانب العلمية والفكرية والسياسية في خلافة هارون الرشيد عندما تولّى وزارته البرامكة، وما أضافه إليها ولده المأمون في خلافته الذي حوّل بغداد إلى مركز للعلوم وأعلى من شأن المذهب المعتزلي كمذهب رسمي للدولة، لكن سرعان ما شهد التاريخ سقوط الدولة العباسية، لأسباب ستتناولها المقالة فيما يأتي.[١]
الخلافة العباسية
قامت الدولة العباسية بعد معركة الزاب، التي قضى فيها العباسيون على الخلافة الأموية، وامتدت الخلافة العباسية خمسةَ قرون 132-656، عرفت خلالها 37 خليفة، ابتدأت بأبي العباس السفاح الذي بدأ سرًّا بتأسيس الدولة العباسية، ثم واجه الأمويين وقضى على آخر خليفة أموي مروان بن محمد، وقضى على الثورات المتلاحقة التي هددت حكم العباسيين، وانتهت بمفهوم الخليفة الوهمي على يد المستعصم بالله بسقوط الدولة العباسية، وقد مرّت الخلافة العباسية بعصرين، العصر الذهبي، وهو العصر العباسي الأول، وانتهى بانتهاء خلافة الواثق بالله عام 232هـ، أما العصر العباسي الثاني فهو عصر الانهيار والتدهور، وابتدأ من خلافة المتوكل على الله، حتى سقوط الدولة العباسية على يد التتار عام 656 هـ. إلا أن هناك من وضع تقسيما آخر من بداية الخلافة إلى سقوط الدولة العباسية، وهي: العصر الأول الذهبي، والعصر الثاني عصر الحرس التركي، وعصر السلاجقة، وعصر المماليك، وكان لكل عصر من هذه العصور أحداثه الفارقة.[٢]
العصر العباسي الأول
بدأ هذا العصر فعليًّا مِن تولّي هارون الرشيد الخلافة 170- 193 هـ، فكان له الكثير من الإصلاحات الداخلية التي أسّست لعصر عباسي ذهبي بمساعدة البرامكة الذين منحهم الصلاحيات المطلقة في الوزارات خاصة يحيى البرمكي، فقد عرفت المصابيح لأول مرّة في عهده واستعملت لإضاءة الطرقات والمساجد، وعمل على بناء المساجد، والإكثار منها، وببناء القصور، والمراصد الفلكية، واهتم بالفيزياء والعلوم والاختراعات، فاخترعت في عهده الساعة الذهبية.[٣]
كما اهتمّ هارون الرشيد بالزراعة، فحرص على بناء الجسور، وحفر الجداول والترع، وبناء القناطر، وما تبعها من اهتمامه بالتجارة، وتشجيع التبادل التجاري، وإنشاء الدواوين للإشراف على الزراعة والتجارة، ولم يغب عنه أثناء إصلاحاته الداخلية أن يعمل على توسيع الدولة الإسلامية، ليصل إلى القوقاز وآسيا الوسطى والأناضول، وحاول فتح القسطنطينية، حتى عرف عنه بأنه كان يحج عامًا، ويغزو عامًا ، وتعدّ نكبة البرامكة من أبرز الأحداث السياسية في عصر الرشيد، فقد صادر أموالهم وشرّدهم، وقتل عددًا كبيرًا منهم، في محاولة منه للسيطرة على نفوذهم، ومنعًا لامتداده، وبعد وفاته أوصى بالخلافة للأمين 193- 198 هـ، ويليه المأمون، إلا أنّ خَلْعَ الأمين المأمون عن ولاية العهد، وإعطاءها لابنه موسى الناطق بالحقّ، خلّف صراعًا بين الأمين والمأمون دامَ أربع سنوات، انتهى بوصول المأمون للخلافة 198- 218 هـ، بعد حصاره بغداد، وقتله للأمين.[٣]
كان للمأمون بصمة بارزة في ازدهار العلوم والفلسفة والرياضيات والطب ورياضيات وعلوم اليونان، وأسس في عصره أول جامعة التي عرفت بجامعة بيت الحكمة، وأسهمَ تشجيعه للعلوم على اختراع الاسطرلاب، ومحاولات قياس محيط الأرض، كما ازدهرت الترجمة في عهده فساعدت على انتقال العلوم والآداب من السريانية والفارسية واليونانية إلى العربية، كما كان للعربية أن تنتقل إلى باقي اللغات وتكتسب مكانة مرموقة لتصبح لغة علم وفلسفة بعد أن كانت لغة أدب وشعر فقط.[٣]
أثّر المأمون على معتقدات الدولة الدينية، فقال بخلق القرآن، وأعلن المعتزلة عقيدة الدولة الرسمية، واستمر بإصلاحاته العلمية والدينية إلى أن تولّى أخيه محمد المعتصم الخلافة 218- 227 هـ، فبنى مدينة سامراء وفتح عمورية، وقضى على ثورة بابك الخرمي الذي أسس دينًا جديدًا يمزج بين الإسلام والمجوسية، وثورة الزُّط جنوب العراق وإجلائها إلى الأناضول.[٣]
كانت سياسة المعتصم قائمة على الاعتماد على الحرس التركي، وتوظيف الأتراك في المناصب العليا في الدولة، واستمرّ ابنه الواثق بالله 227- 232 هـ من بعده بالسياسة ذاتها، ممّا مَهَّد لضعف الدولة، وكان لأخيه أبي الفضل جعفر المتوكّل 232- 247 هـ الذي تولّى الخلافة من بعده، الأثر المباشر في بداية انحطاط الدولة العباسية.[٣]
العصر العباسي الثاني
كان لعدم قدرة العباسيّين الحفاظ على الوحدة الإدارية لأراضيهم، أثر في سقوط الدولة العباسية بعد ما مرت به من أحداث فترة قوتها وفترة تراجعها وانحطاطها حتى لحظة سقوط الدولة العباسية، ففي فترة خلافتها قامت الدولة الأموية في الأندلس على يد عبد الرحمن الداخل، والدولة الإدريسية في المغرب التي أسسها إدريس بن عبد الله بن الحسن بعد فراره من مذابح العباسيين للعلوين في عهد موسى الهادي 169- 170 هـ بعد معركة الفخ، وولاية إبراهيم بن الأغلب وذريته لإفريقية في عهد المأمون، واستمرارهم على ولايتها حتى ظهور الدولة الفاطمية، وخلال حكم بني الأغلب لم يحفظوا للخلفاء العباسيين غير الخطبة وسك اسم الخليفة على النقد، دون الاعتراف بالخلافة رسميًّا.[٤]
بدأ انحطاط الدولة العباسية من العصر العباسي الثاني، الذي عُرف باسم عصر الحرس التركيّ، الذي كان فيه قادة الجيش الأتراك هم المسؤول المباشر عن تعيين الخلفاء، بغض النظر عن رغبة العباسيين أنفسهم، فبعد أن عيّن الجيش المتوكل على الله خليفة للعباسيين وسيطروا عليه، حاول الثورة على الجيش، إلا أنه لم يقضِ إلا على عدد قليل منهم كابن الزيات وإيناخ، وحاول نقل عاصمة الدولة إلى دمشق إلا أنه ما لبث أن عاد إلى سامراء بسبب ضغط الأتراك عليه، وكان لبعض الإصلاحات التي قام بها المتوكل سبب في انقلاب الأتراك عليه، والاتفاق مع ابنه المنتصر بالله على قتله وتعيينه خليفة 247- 248 هـ، ومن ثم قتل المنتصر وتعيين المستعين بالله 248- 252 هـ خليفة للدولة، ومن الإصلاحات التي قام بها المتوكل تغييره لمذهب الدولة الرسمي من المعتزلي المتوافق مع الشيعي إلى السني، وأمره بهدم ضريحَيْ الحسين بن علي في كربلاء وعلي بن أبي طالب في النجف ومنع الناس من زيارة الأضرحة، وهدم جميع الكنائس المسيحية واليهودية في العراق ومناطق أخرى، ووضع إشارات مميزة للمسيحيين واليهود على ملابسهم ومنعهم من ركوب الخيل، لقد حاول المتوكل القيام بالعديد من الإصلاحات الدينية وتطبيق الشريعة الإسلامية إلا أن ما فعله يتنافى مع قواعدها، إذ كفل نظام أهل الذمة الإسلامي حقوقًا وكرامة أوسع للمسيحيين واليهود.[٤]
شهدت خلافة المستعين بالله مزيدًا من الحروب والفتن التي أدّت إلى سقوط الدولة العباسية، ومنها قيام الدولة الطاهرية في خراسان، واستقلال طبرستان بقيادة الحسن بن زيد الملقب بالداعي إلى الحق عن الحكم، ظهور الفتن بين الأتراك أنفسهم بعد انحصار السلطة في عائلة بغا التركي، وتمردوا على الخليفة، فبايع الجند المعتز بالله 252- 255 هـ خليفة، فسيّر جيشًا إلى بغداد، خلع به المستعين واستلم الخلافة، واستمر تفكك الدولة في خلافة المعتز بالله، فقامت الدولة الطولونية في مصر، التي خطت خطى بني الأغلب ولم تترك للخليفة سوى الخطبة والسكة، واستولى الصفاريون بلاد فارس، مما دفع بالأتراك إلى خلعه وتعيين المهتدي بالله بن الواثق 255- 256 هـ على الخلافة.[٤]
حاول المهتدي بالله كسر شوكة الأتراك، فقتل قائدهم بايكال، فسارع الأتراك إلى قتله بعد عام واحد خلافته، وبايعوا المعتمد على الله بن المتوكل على الله خليفة 256- 279، وشهد عهده ثورة الزنج احتجاجًا على تردي الأوضاع الاقتصادية والمعاملة الاجتماعية الدونية، وزيادة سيطرة الطولونيين في مصر على أغلب بلاد الشام، ومنعهم السيادة الاسمية للخليفة بذكر اسمه في الخطبة، فلم يبق للعباسيين سوى العراق. كما توفى في عهده الإمامين بخاري ومسلم، وظهرت، وظهور الإسماعيلية.[٤]
شهدت الدولة العباسية تحسنًا اقتصاديًّا وسياسيًّا بعد وفاة المعتمد على الله وتولّى المعتضد بالله 297- 298 هـ من بعده الخلافة، ومن بعده ابنه المكتفي بالله، فقد تمكنوا من من استعادت مصر وهزيمة الاسماعيلية في عدة مواقع، وعادت بغداد عاصمة للدولة العباسية، وظهرت في عهد المكتفي الدولة السامانية التي استعادت طبرستان وسيطرت على بلاد فارس وخراسان مع حفظ كسابقاتها من الدول التي استقلت عن العباسيين السلطة الاسمية للخليفة. وبعد وفاة المكتفي، تولى المقتدر بالله الخلافة 295- 320 هـ الخلافة، وخلع أثناء حكمه مرتين وعاد إلى الحكم وبقي فيه إلى أن قتل بعد معركة بينه وبين قائد جيشه مؤنس التركي، وتولّى أخوه القاهر بالله الخلافة من بعده 320- 322 هـ، وما لبث أن خلعة مؤنس نفسه بعد عامين من حكمه، وفي خلافة القاهر ظهرت الدولة البويهية في بلاد فارس وخراسان، وظهرت الدولة الفاطمية التي قضت على حكم الأغلبية نهائيًّا مع الحفاظ على السيادة الاسمية للعباسيين، كما استقلت تونس والجزائر وليبيا عن الدولة العباسية.[٤]
في الفترة بين 322- 329 هـ تولّى الراضي بالله الخلافة، وفي عهده ظهرت الدولة الإخشيدية في مصر وسيطرت على مساحات شاسعة من بلاد الشام، وأصبح نفوذ أمير الأمراء قويا بما أتاح له مجالا للتغيير في العرف القائم في مبايعة الخليفة الجديد مباشرة بعد موت السابق، فمات الراضي بالله ولم تتمّ مبايعة الخليفة الجديد إلا بعد أسبوع، حتى بايع أمير الأمراء بجكم التركي المتقي لله 329- 333 هـ.[٤]
ونظرًا إلى سلطة أمير الأمراء، تفاقم الصراع عليه، فجاء بعد بجكم، ابن البريدي الذي خلع لظلمه، ثم كورتكين فابن رابق، الذي هرب والخليفة إلى الموصل احتماءً لدى الحمدانيين من بطش ابن بريدي العائد إلى بغداد؛ ولم يلبث ناصر الدولة بن حمدان أن قتل ابن رابق وتولى إمارة الأمراء بنفسه وأعاد الخليفة إلى بغداد، تلاه تورون الذي سجن الخليفة وسمل عينيه وبايع المستكفي بالله 333-334 هـ، وقد تولّى في خلافته ثلاثة على منصب أمير الأمراء، هم: تورون وابن شيرزاد ومعزّ الدولة بن بويه مؤسّسًا الدولة البويهية، الذي خلع المستكفي وعيّن المطيع لله خليفة 334- 363 هـ؛ فعرفت خلافته امتدادًا لنفوذ الفاطميين، وأصبح العالم الإسلامي مقسمًا على ثلاثة خلفاء في آن واحد، في قرطبة والقاهرة وبغداد، كان أضعفهم سلطة خليفة بغداد.[٤]
شهدت خلافة المطيع استمرارًا للحروب بين البويهين والحمدانيين والجند الأتراك، وفي هذه الفترة احتل البويهيون بغداد، وأبقوا الخليفة العباسيَّ في مكانه، وجرَّدوه من سلطانه، ولم يتركوا له إلا الاسم، وحقَّه في الأمور الدينية، وإقرارِ المساجد التي تقام بها صلاة الجمعة، وقد كانت الأوضاع السياسية في بغداد أيامَ البويهيِّين سيِّئةً، وكذلك الأوضاع الاقتصادية، وأغار البيزنطينيون على حدود الدولة واستعادوا أجزاءً من الأناضول وكيليكيا، كما ثار الأتراك بقيادة سبكتكين على الدولة البويهية وخلعوا الخليفة وبايعوا ابنه الطائع لله 363- 381 هـ، وكانت خلافته تفتقر إلى الاستقرار السياسي مع تتالي الحروب والفتن بين بني البويه من ناحية والأتراك من ناحية ثانية حتى خلع، وبويع بعده القادر بالله 381- 422 هـ، الذي شهد عهده قيام الدولة الغزنوية وانهيار الخلافة الأموية في الأندلس، واستمرار الحروب بين البويهيين والأتراك.[٤]
ثم تولى بهاء الدولة البويهي الحكم، فشهدت المنطقة حالة من الهدوء، حتى نهاية حكم سلطان الدولة وأخيه شرف الدولة، فضعفت الدولة البويهية وعظم شأن الأتراك، ووصلت ذورتها في أواخر خلافة القادر، حين قام أرسلان بن عبد الله البساسيري بالخطبة للخيفة الفاطمي في بغداد، فاستنجد الخليفة العباسي بطغرل بك قائد السلاجقة، الذي احتلّ بغداد 446هـ، وثبت الخليفة العباسي، وابتدأ عصرالسلاجقة في بغداد، وتعرَّض سُكَّان العراق إلى انتشار الأوبئة والمجاعات؛ بسبب الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.[٤]
وما زالت الدول العباسية، أو ما بقي منها، يشهد صراعات وحروب وقتن داخلية وخارجية، كهجرة القبائل الكردية من جهة بحر قزوين للاستقرار في العراق وشمال بلاد الشام؛ مما أدّى إلى تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وقامت الحروب الداخلية بين الدولتين العقيلية والمروانية اللتين ظهرتا بعد انهيار الدولة الحمدانية للسيطرة على سوريا، فغلب على العقيلية الطابع العربي وعلى المروانية بينما الطابع الكردي، أما الحروب الخارجية، فكانت من غارات البيزنطيين على حلب وأنطاكية واحتلالهما فترة من الزمن، بعد تردّ الوضع الداخلي، وضعف الدولة من الداخل.[٣]
العصر العباسي الثالث
العصر الثالث، ويعرف بعصر السلاجقة، وهم مجموعة من القبائل التركية الرُّحَّل المحاربة، التي كانت تعيش في الصين وانتقلت منها إلى بخارى واعتنقت الإسلام هناك في عهد مؤسسها سلجوق، ثم استطاعت تحت زعامة طغرل بك السيطرة التدريجية على ممتلكات الدولة الغزنوية والدخول إلى بغداد بناءً على طلب الخليفة، الذي عين طغرل بك سلطانًا وخطب باسمه وزوجه ابنته، وكان يلقبه الخليفة بملك المشرق والمغرب، إذ يعدّ المؤسس الحقيقي للدولة السلجوقية، وكان أول من حمل الراية الحمراء ذات الهلال والنجمة.[٣]
خلف طغرل ألب أرسلان الذي انتصر في معركة ملاذكرد، وتمكن من تأسيس دولة سلجوقية في الأناضول، وتبعه بعد ذلك ابنه جلال الدولة ملكشاه، وفي سلطنته توفي الخليفة القائم بأمر الله بعد خلافة استمرت خمسة وأربعين عامًا 422- 467 هـ، وعكست الاستقرار وتحسن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتولّي بعدها المقتدي بأمر الله بالخلافة 467- 487 هـ. وقد اهتم ملكشاه بالعلوم والفنون وبنى مرصًدا فلكيًّا في بغداد، ومسجدًا كبيرًا دعي «جامع السلطان»، وعُرف في سلطنته الشاعر عمر الخيام، وثار في عهده القرامطة في البصرة عدة مرات وكانت ثوراتهم من أسباب سقوط الدولة العباسية، حتى فقدت الدولة السلجوقية قوتها بوفاته، وكان للثورات التي قامت أثّرت على الاستقرار الاجتماعي، والوضع الاقتصادي مما أدّى إلى انتصار الحملة الصليبية الأولى 488 هـ، في خلافة المستظهر بالله 487- 512 هـ، والمساهمة في سقوط الدولة العباسية.[٣]
لم يستطع السلاجقة رد الصليبيين عن بلاد الشام، إلا أنهم تمكنوا من منع تقدمهم نحو أنقرة وقلب الأناضول، حلب والعراق، خصوصا العراق التي كانت الخلافة فيها منشغلة بثورة القرامطة، ولم تهتم بغزوات الصليبيين، مما أدى إلى وقوع القدس تحت سيطرة الصليبيين، وبعد وفاة المستظهر بالله، تولّى المسترشد بالله الخلافة 512- 529 هـ، وفي خلافته نمت الدولة الزنكية بقيادة عماد الدين زنكي وابنه نور الدين زنكي الذين ضموا الموصل وحلب وحمص ودمشق ومصر إلى أملاكهم، في هذه الفترة كان السلاجقة مشغوليين بحروبهم الداخلية بين مسعود السلجوقي الذي انتصر على ابن أخيه محمود، وقتل الخليفة المسترشد، فتولّى الراشد بالله الخلافة بعده 529- 530 هـ، وسرعان ما خُلع وتولّى المقتفي لأمر الله الخلافة 530- 555 هـ من بعده.[٣]
عمل المقتفي لأمر الله على الاستقلال بحكم بغداد، ودعم الأسرة الزنكية التي حارب الصليبيين واستعادت الرها منهم؛ وعندما توفي تولّى ابنه المستنجد بالله بالخلافة 555- 566 هـ، فاستمر بسياسة والده في الحفاظ على استقلال بغداد وجوارها، وفي خلافته خطب للعباسيين في مصر على يد الدولة الزنكية بعد وفاة العاضد لدين الله آخر الخلفاء الفاطميين، وبذلك توحدت الخلافة الإسلامية مجددًا؛ كما شهدت خلافته ظهور السلطنة الأيوبية بقيادة صلاح الدين الأيوبي الذي تمكّن في خلافة المستضيء بأمر الله 566- 575 هـ من استعادة القدس، وعدد من المدن الواقعة تحت سيطرة الصليبيين بعد معركة حطين، وتصدى للحملة الصليبية الثالثة.[٣]
تابع الناصر لدين الله الخلافة 575- 622 هـ بعد أبيه المستضيء، والذي حافظ على جزء كبيرمن العراق تحت إدارته الفعلية لا إدارة الوزراء أو الجيش، وقد سمّيت فترة استقلال هؤلاء الخلفاء بالعراق بفترة استعادة هيبة الخلافة. وبعد وفاة الناصر لدين الله، وصلاح الدين الأيوبي تحارب الأمراء الأيوبيون أبناء صلاح الدين على السلطة وتقاسم البلاد، فدعوا القبائل تركية وشركسية لدعمهم، عُرفت فيما بعد بالمماليك وكانت سببا لسقوط الدولة العباسية، في وقت كانت يتعرض فيه أقصى المشرق الإسلامي، لغزو المغول بقيادة جنكيز خان. وقد خلف الناصر ابنه الظاهر بأمر الله 622- 623 هـ، وتبعه بعام ابنه المستنصر بالله 623- 640 هـ، فأسس الجامعة المستنصرية، وأسس دورًا لضيافة الفقراء وإعتاق الرقيق، في حين كان المغول مستمرين بالسيطرة على بلاد فارس باتجاه العراق في محاولة لسقوط الدولة العباسية.[٣]
أسباب سقوط الدولة العباسية
تعددت الأسباب التي أدّت إلى سقوط الدولة العباسية، وكان لكل سبب من هذه الأسباب مجتمعة أثر قوي ومباشر في سقوط الدولة العباسية، وإن أخذ وقته لذلك، وفيما يأتي إيجاز لهذه الأسباب:[٣]
- بروز الحركات الشعوبية السياسية والفكرية والأدبية التي فضّلت غير العرب على العرب، وقامت بين الطرفين العديد من النزاعات حول أفضلية من وتفوق من في شتى المجالات.
- بروز الحركات الدينية المختلفة التي عارضت الحكم العبّاسي، وكان أساس الخلاف بينها وبين الحكم العباسي القول بالخلافة أو بإمامة المسلمين، فكان لاختلاف الجماعات في مبادئها وشعاراتها ونظامها الخاص وطريقتها في الدعوة، أثر في توسيع الخلاف السياسي وسقوط الدولة العباسية فيما بعد.
- اتساع رقعة الدولة العباسية، مما أدى إلى ظهور الحركات الانفصالية هولاكو لقتل الخليفة، آملا أن يوليه هولاكو الخلافة، إلا أنه قتله كما قتل خليفته، وقد ذكره الكثير من المؤرّخين في كتبهم، واصفين إياه بالخيانة والتؤامر على الدولة العباسية وعلى الإسلام.[٦]؛ ذلك أنه قصد من وراء طلبه الحكم تثبيت مذهبه الشيعي الرافضي، وكانت أول تدابيره لتسيل دخول التتار بغداد، هو تقليص عدد الجيس من مائة ألف جندي إلى عشرة آلاف، وعندما وصل التتار إلى بغداد حاصروها، وجنودها في غاية الضعف، فخرج لهم الوزير وأعوانه وأهل بيته لاستقبالهم، وطلبوا من الخليفة الخروج إليهم، على أن تحدث المصالحة بين الطرفين وأن يتقاسما خراج بغداد مناصفة، وأن يزوّج الخليفة ابنته لابن هولاكو.[٥]
ولكن العلقمي وأتباعه، أثاروا الشك في قلب هولاكو من المصالحة، وشجّعوه على قتل الخليفة، فقتل رفسا بالأقدام، وابنه الأكبر، وأسر ابنه الأصغر وأخواته الثلاثة، وألف امرأة من بني العباس، وقتل رجال الدولة ذبحا كالشاه أمام أسرهم، ثم يأسرون من أرادوا من بناتهم وجواريهم، ثم أتبعوهم بقتل كل من في المدينة وقطع رقابهم أو تحريقهم حتى غرقت بغداد بالدماء، وتحوّلت إلى خرابة، وانتشرت الأوبئة فيها، ولم ينج فيها إلا أهل الذمة، ومن لجأ لبيت العلقمي. وكان احتلال بغداد من هولاكو هو الحلقة الأخيرة لسقوط الدولة العباسية، على الرغم من استمرار مفهوم الخلافة العباسية في مكان آخر في الدولة المملوكية في مصر [٧].
الدولة العباسية بين الصليبيين والتتار
كان الصليبيون أول ضربة للدولة العباسية، عندما استغلوا ضعفها بعد معركتي الزلاقة وملاذكرد، وحاول كسر شوكتها كي لا تعود للإسلام قوة أبدا، فساعدهم على ذلك مجموعة من العوامل هي:[٢]
- وجود عناصر بربرية دخلت إلى النصرانية، ومنها الجرمانية والمجرية، ساعدت على سقوط الدولة العباسية.
- انتصار الإيطاليين في البحر الأبيض المتوسط، واحتلال النورمانديين لجزيرة صقلية، وإخلائها من المسلمين بالكامل.
- ضعف السلاجقة، نتيجة للحروب الداخلية، والثورات المتكررة، التي أدت إلى سقوط الدولة العباسية.
- تقديم البابا الصليب للنصرانية لفتح بين المقدس، بتجهيزه لحملة صليبية مكونة من 300 ألف جندي، سارت إلى بيت المقدس ووصلوها عام 492 هـ، وقتلوا من قتلوا وسفكوا الدماء فيها، وكان نتيجة الحملة، قيام أربع إمارات لاتينية في المنطقة: إمارة الرها، وإمارة بيت المقدس، وإمارة أنطاكية، وإمارة طرابلس.
أما التتار فبدؤوا بالظهور عندما بدأ المد الصليبي ينحسر في بلاد الشام، وكان التتار قوة ضخمة، تمتاز بسرعتهم في الحركة، وهمجيتهم، وقدراتهم القتالية الهائلة، فحاول الصليبيون تمهيد الطريق لهم في بلاد الشام، ومراسلتهم، وكشف خيرات البلاد لهم، فبدأ التتار عام 656 هـ بغزو بلاد الشام، وكانوا قد بدأو غزوهم، وهمجيتهم ونهبهم بقيادة جنكيز خان، من تركستان، وما وراء النهر، والري، وهمدان، وأذربيجان، والقفقاس، وخاضوا معارك مع المسلمين في تلك المناطق، فهزمهم المسلمون مرتين في غزنة وفي كابل، إلى أن تفقوا على المسلمين على نهر السند، وخاض المسلمون معهم معركة أخرى في الري فانتصروا عليهم ومات جنكيز خان، فتراجع التتار إلى أن استعادوا قوتهم، ووجهوا غزومه إلى أماكن أخرى من أوروبا، وإلى الصين التي اتخذوا فيها من بكين عاصمة للمغول، ومنها عادوا إلى بلاد الاسلام بقيادة هولاكو، فضوا على الاسماعيلية في بالد فارس وسيطروا عليها، ثم اتجهوا إلى بغداد، بعد مكاتبة ابن العلقمي لهم، وحاصروها لأربعين يوما، حتى سقطت بغداد، وكانت معقلا لسقوط الدولة العباسية كاملة عام 656 هـ، لكن ما لبثت شوكة التتار أن انكسرت والقضاء عليهم عام 658هـ.[٢]
قصائد في سقوط الدولة العباسية
كان لسقوط الدولة العباسية، وخاصة سقوط بغداد، أثر كبير في نفوس الأدباء، حتى نظم عدد من الشعراء، قصائد ومطولات في رثاء بغداد، ومنهم ما يأتي.
شمس الدين الكوفي
وهو شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الله الهاشمي الكوفي، المولود في الكوفة عام 623 هـ، شهد مداهمة هولاكو للعراق، واستباحته لمدارسها ومساجدها، ونهبه أموالها، وتحريق مكاتبها، وانتهاك أعراضها، وبناء التلال من جماجم قتلاها، فنظم الشاعر قصائد موجعة في رثاء بغداد، والأهل والأحبة، ومن هذه القصائد قصيدته التي مطلعها:[٨]
عنـدي لأجــل فراقـكـم آلام
- فـإلام أعــذل فيـكـم وألام
من كان مثلي للحبيـب مفارقـا
- لا تعذلـوه فالـكـلام كــلام
نعم المساعـد دمعـي الجـاري
- علـى خـدي إلا أنـه نـمـام
ويذيب روحي نوح كل حمامـة
- فكأنمـا نـوح الحمـام حمـام
ابن أبي اليسر
وهو الشاعر بهاء الدين إبراهيم بن أبي اليسر شاكر بن عبد الله التنوخي الشافعي. يعدّ من شعراء العصر الأيوبي، تولّي قضاء المعرة لخمسة أعوام، كتب قصيدة في رثاء بغداد، مطلعها:[٩]
لسائل الدمع عن بغداد أخبار
- فما وقوفك والأحباب قد ساروا
يا زائرين إلى الزوراء لا تفدوا
- فما بذاك الحمى والدار ديار
تاج الخلافة والربع الذي شرفت به
- المعالم قد عفاه إقفار
أضحى لعطف البلى في ربعه أثر
- وللدموع على الآثار آثار
المراجع[+]
- ↑ "عباسيون"، www.marefa.org، اطّلع عليه بتاريخ 27-06-2019. بتصرّف.
- ^ أ ب ت "خلفاء العصر العباسي"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 27-06-2019. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س "الدولة العباسية"، www.wikiwand.com، اطّلع عليه بتاريخ 28-09-2019. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث ج ح خ د ذ "بغداد والغزوات عبر التاريخ"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 27-6-2019. بتصرّف.
- ^ أ ب "سقوط بغداد"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 27-2019. بتصرّف.
- ↑ "مؤيد الدين بن العلقمي"، www.wikiwand.com، اطّلع عليه بتاريخ 27-6-2019. بتصرّف.
- ↑ "سقوط بغداد بين الماضي والحاضر "، www.saaid.net. اطّلع عليه بتاريخ 28-6-2019. بتصرّف.
- ↑ "شمس الدين الكوفي"، almerja.com، اطّلع عليه بتاريخ 27-6-2019.
- ↑ "لسائل الدمع عن بغداد أخبار"، www.aldiwan.net، اطّلع عليه بتاريخ 27-6-2019.