أثر اللون في التشكيل المضموني للقص
اللغة الشعرية
تختلف اللغة الشعرية عن اللغة العادية التي يتناولها الأدباء في كتاباتهم، ولا بُدّ للناقد والقارئ بشكل عام أن يعلم مدى هذا الاختلاف وتوضيحه، ومن أهم المفكرين الذي عرضوا مفهوم الشعرية وقاموا بدراسات متعمقة وواضحة حول هذا المفهوم هو المفكر الفرنسي تودروف، فقد أشار إلى اللغة الشعرية ووضّح معناها بأنها اللغة التي تستعمل الإمتاع والتأثير الجمالي في المتلقي، وهي اللغة التي تخاطب القلب والوجدان، وتعتمد في أغلبها على الخيال، والتشبيه، والمجاز، والاستعارة، والإيقاع، وتطمح اللغة الشعرية إلى الخروج عن كل ما هو معروف ومألوف، إذ تذهب إلى الفرادة التي يختص كل كاتب عن غيره بها، فاللغة الشعرية هي لغة إيحائية وجمالية، تتعمق في التعبير، فتبتعد عن التصوير المباشر كما في اللغة العادية، فغاية اللغة الشعرية هي غاية إبداعية، وجمالية، تسعى لتتقرب من المتلقّي وتلامس وجدانه، فغايتها ليست الإفهام والنقل المباشر، وإنما هي غاية تطمح للتأثير الفني والجمالي بمختلف الصور الشعرية المتناولة، تلك التي تلامس القارئ مباشرة.[١]
أثر اللون في التشكيل المضموني للقصيدة
يتكوّن الشعر من اللغة، وبالّلغة يستطيع الشاعر أن يُركب قصيدته، وأن يشكل مضمونها وقضاياها، فاللغة هي ذات الأهمية الأكبر فهي الركن الأول في عملية التفكير، وهي الركن الأهم الذي يوصل النص للقارئ، إذ إنها وسيلة للتواصل وبث المشاعر والأحاسيس، سواء بالكتابة أو المخاطبة، واللغة العربية واسعة وشاملة بمصطلحاتها، وهي من أشمل وأدق اللغات ذلك لمدى سعتها، وكثرة مرادفاتها، وألفاظها التي تحمل الكثير من الدلالات، مثال ذلك ما نجده في أثر اللون في القصيدة العربية، فالشاعر لا يوظف اللون هنا كونه لونًا يُرى بالعين فقط، إنّما وظّفه كونه شعورًا وحِسَّا يرتبط به، وبحسب نفسية الشاعر استعان بتوظيف اللون، والأدباء في مجملهم هم متمكنون من اللغة ومفرداتها، وعلى دراية بأقسام البلاغة وأساليبها المختلفة، تلك التي تساعدهم بتوظيف المفردات في أشعارهم، وذلك يظهر بتأثُّرهم بهذه المفردات وتوظيفها على عكس معناها، فالشاعر لا يأخذ المعنى المباشر، إنّما غير المباشر، لذلك فالدارس حين يحلل النص، لا بُد ألّا يهتم فقط لِما في داخل النصّ، بل أن يتعمّق لما هو خارج وخلف هذا النص من دلالات نفسية شعرية واضحة.[٢]
يهتم الشاعر بالألوان وتوظيفها، ويختلف الإحساس باللون من شاعر إلى آخر، ومن تجربة إلى أخرى، فالتشكيل المضموني للقصيدة يعتمد في ذكره للون على تجربة الشاعر، مما يكسبه طابعه الخاص والفريد، وقد يتغير مضمون اللون في القصيدة بحسب إحساس الشاعر وتقلباته النفسية، فالشاعر يستخدم اللون في تشكيل مضمون قصيدته ضمن الأغراض الشعرية فمثلًا يتجلى اللون في وصف الأشياء بعكس وجودها، فيصف اللون بعكس حقيقته، وذلك كله من صنع خياله، وفي تتبع أثر اللون على مضمون القصيدة سنجد أنه في أغلبه يدل على الذكريات المستمدة من هذا اللون، وتلك هي رؤية اللغة الشعرية عند الشعراء، وتختلف دلالة توظيف اللون من نص إلى آخر، وذلك يعود إلى السياق وفهمه.[٣]
إن اللون هو في الأساس الأداة الأولى للفنّان، أيْ الرسام، وفي الرسم ودروسه ثمّةَ ما يسمى بنظرية الألوان، وهو مصطلح يستخدم لوصف قواعد ومبادئ استخدام الألوان، ومضمون توجيه وتوظيف كلّ لون عن غيره، وهذا ذاته ما نجده في توظيف اللون وأثره على مضمون القصيدة، فنظرية اللون في مجملها يتحد معناها بمختلف العلوم والآداب، فاللون وسيلة جمالية لرؤية العمق والجوهر لكل عمل، وبذلك الأثر تكتسب الأعمال طابعًا جماليًا لا يخفى.[٤]
وقد ظهرت نظرية اللون عند الشعراء العرب، ولكن بشيء من التعقيد، فظهر مفهوم عقدة اللون، وذلك ما شكّله أثر اللون في مضمون القصيدة، مثال ذلك الشاعر السليك بن السلكة، وهو السليك بن عمير بن سنان السعدي التميمي، كانت أمه سوداء زنجية، وورث منها قبح الوجه والسواد، وقد أكسبته أمه العبودية والهُجنة، فرأى الذل والفقر منذ صغره، وقد عبّر في شعره عن صفاته ومبادئه وحياته، فيرسم حالته النفسية وتهالكها، إذ تميز شعره بالوصف الدقيق، وقوة التراكيب، والبعد عن التكلف والتعقيد[٥]، وتبعًا لذلك فقد عانى السليك بن السلكة من عقدة اللون، واكتسبت أشعاره عقدة السواد، فشكلت مضامين شعره، فكان اللون الأسود يظهر مضمون شعره حول القضايا الاجتماعية وسوءها، فكان شعره يكتسب هذا اللون بمعنى واضح بالتشاؤم من الحياة، فكان مضمون القصيدة يحمل أثر اللون الذي تشكل بواسطة طابع نفسي خاص بالشاعر نفسه، فالشاعر السليك بن السلكة كانت حياته مليئة بالعقدن واكتسب سواد البشرة من أمه، وفي أمور حياته كان قد فشل في علاقته مع زوجته، إضافة إلى فقره وسوء حالته الاجتماعية بشكل عام، وكرد فعل على ظروف حياته، جاء أثر اللون الأسود جليًا في مضمون شعره وقصائده، والذي يدل على التشاؤم واليأس والكدر من الحياة.[٦]
تجليات اللون في الشعر العربي
وظّف الشعراء في الشعر العربي نظرية اللون، فكان للون دلالاته الخاصة التي يكتسبها من خلال سياق عنترة بن شداد، وتختلف دلالة اللون باختلاف البيئة والموطن، فقد نفر العرب من الحمرة بالبشرة وهي صفة اليهود، وبذلك أخذ اللون الأحمر دلالة سوداوية، مثال على ذلك ما قيل في شعر العصر الجاهلي، فالشاعر يصور ساحه بالألوان الساطعة والمشرقة كالأصفر، مثال هؤلاء الشاعر ثعلبة بن عمرو العبدي، ومن تجليات اللون الأصفر في الشعر أنه يدل في بعض الأحيان على الخوف كما جاء في شعر المتنخل الهذلي، وتجلى في أحيان أخرى أنه يرمز إلى الذبول والموت وقرب الأجل كما جاء في شعر ابن الرومي.[٧]
أما عن اللون الأبيض في الشعر العربي فهو غالبًا ما دل على النقاء، والأمل، والصفاء، والخير، وبعض الشعراء وظّف اللون الأبيض في وصف محبوبته ومنهم ما جاء في شعر الأعشى، وعبيد بن الأبرص، وبعض الشعراء يوظّف اللون الأبيض في حديثه عن الشيب فيتجلى المعنى وهو يحمل أثرًا من التشاؤم، وضعف القوة، وفقد الحيوية والنشاط، كما جاء في شعر ابن الرومي، وربيعة بن مقروم، أما عن اللون الأزرق في الشعر العربي، فالمعروف أن دلالة هذا اللون يتجلى في السماء الصافية، ومياه البحر، فهو لون يدل على التجديد، والأمل، والتفاؤل، بيد أن الشعراء استعانوا بدلالة نفسية مغايرة، فتجلى اللون الأزرق وهو يدل على اللؤم كما جاء في شعر سويد اليشكري، ولكن من أكثر الدلالات التي استخدمها الشعراء في توظيف اللون الأزرق هي أنه يتجلى هذا اللون بالأمل والصفاء والنقاء، كما جاء في وصف الماء ضمن أشعار زهير بن أبي سلمى، وفي شعر آخر وُظّف اللون الأزرق ليدل على السحر وهذا ما يجده القارئ عند قراءة شعر عمر بن أبي ربيعة.[٧]
ومن الألوان التي جاءت في الشعر العربي بشكل كبير، اللون الأخضر، إذ يدل اللون الأخضر على الطبيعة والنباتات، ويتجلى ظهوره في أغلب الحيوانات، ويشير اللون الأخضر في علم النفس بأنه يدل على الحسد، وفي بعض الأحيان يدل على الخير والأمل، ويختلف دلالة اللون بحسب اختلاف الثقافات والشعوب، والأفكار والتقاليد المتوارثة، فمثلًا يرمز اللون الأخضر في الولايات المتحدة إلى المال، بينما يرمز في اليابان إلى السلامة والترف، أما عن اللون الأخضر في الشعر العربي فهو يتجلى بمعاني عدة من بينها أنه يدل على الحياة، والخصوبة، والنماء، كما جاء في شعر الأعشى، ويتجلى اللون الأخضر في شعر زهير بن أبي سلمى في وصف فرسه، فيدل على معنى السرعة، والنشاط، والقوة، وبذلك فقد اختلف أثر اللون وظهور تجلياته في مضامين قصائد الشعراء في الشعر العربي، وما زال أثر حتى العصر الحالي يظهر في فنون النثر والشعر، ومما لا لبس به أنه مهما اختلفت النصوص وتعددت فإن اللون يكتسب مضمونه من خلال الكاتب أو الشاعر نفسه، فهو الذي يحقق دلالة اللون وذلك اعتمادًا على نفسيته ومشاعره.[٨]المراجع[+]
- ↑ "الفرق بين اللغة الشعرية واللغة العامية"، www.uobabylon.edu، اطّلع عليه بتاريخ 11-05-2020. بتصرّف.
- ↑ "أهمية اللغة العربية ومميزاتها"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 11-05-2020. بتصرّف.
- ↑ محمد ماجد الدخيل (2015)، اللون في الأعمال الكاملة لأمل دنقل، الأردن: مجلة المشكاة للعلوم الإنسانية والاجتماعية، صفحة 102. بتصرّف.
- ↑ "ما هي نظرية الألوان"، www.arageek.com، اطّلع عليه بتاريخ 11-05-2020. بتصرّف.
- ↑ "السليك بن السلكة"، www.marefa.org، اطّلع عليه بتاريخ 11-05-2020. بتصرّف.
- ↑ نادر مصاروة (2002)، عقدة اللون وغربة النفس في الشعر العربي قبل الإسلام (الطبعة 3)، مجلة الشرق، صفحة 101.
- ^ أ ب ت عبد العزيز غنام المطيري (2014)، الدلالة النفسية للون في شعر الطبيعة في العصر الأندلسي، جامعة الشرق الأوسط، صفحة 28. بتصرّف.
- ↑ "أخضر"، www.marefa.org، اطّلع عليه بتاريخ 11-05-2020. بتصرّف.