ماهي نشأة شعر النقائض
شجّعت الحياة الجاهلية التي قامت على التنافس بين القبائل من ناحية، وبين الأفراد من ناحية أخرى، على نشوء فن النقائض في البيئة الجاهلية كفن من فنون الشعر التي عرفها الناس آنذاك، ولعلها قد اتصلت في بداية نشأتها بتلك المعارك الكلامية التي كان الشعراء يخوضونها في سبيل الدفاع عن القبيلة وإعلاء شأنها والنيل من خصومها، وإثبات ذواتهم وانتمائهم لها، ولعل خير ما يشهد على هذا اللون من النقائض الأولى ما جرى بين شعراء الأوس والخزرج قبل الإسلام من منافرات ومفاخرات حملت مضمون النقائض من فخر وهجاء دون التزام بسائر الأشكال الفنية من وحدة الوزن والقافية بين النقيضتين، وقد امتازت النقائض آنذاك بالعفوية والارتجال الذي تتطلبه طبيعة هذا الفن، إضافة إلى الروح القبلية والتفاخر بالأنساب والأحساب و الشتم والقذف وما إلى ذلك مما استخدمه الشعراء كسلاح لمواجهة خصومهم والتشهير بهم.
أما في عصر صدر الإسلام فقد اشتعلت حرب النقائض واشتدت فيما دار بين المسلمين والكفار من مواجهات كلامية، وقد امتازت عن نظيرتها في العصر الجاهلي بما اكتست به من روح دينية ومذهبية فكرية دفعت كل فريق للدفاع عن مبادئه الدعوية وفلسفته الدينية ولعل الروح القبلية قد أخذت بالتراجع والاضمحلال أمام ما حملته من مضامين فكرية ودينية لا سيما في شعر المسلمين من أمثال حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة الذين استنشد بهم الرسول صلى الله عليه وسلم كسلاح في وجه الكافرين حيث قال: "فو الذي نَفْسي بيَدِه، لكَلامُه عليهم أشَدُّ مِن وَقْعِ النَّبْلِ"، فقد أدرك الرسول -صلى الله عليه وسلم- أهمية الشعر ودوره في تثبيط مسيرة الخصم ودحضها وما له من دور دعوي بارز من شأنه أن يدعم الإسلام ومبادئه ويؤرخ له .
أما في العصر الأموي، فقد كانت الخلافات المتتابعة للملوك والحكام على عرش الدولة الأموية، وظهور الفتن السياسية و التحزبات المذهبية، إضافة لاختلاط العرب بغيرهم من الأجناس وظهور الفتن والمجون واسترداد الروح القبلية والتعصبات للأحساب والأنساب كفيلة بتأجيج فن النقائض لتبلغ ذروتها على المستوى الفني والمضموني، ولعلها قد تفوقت على غيرها من الألوان الشعرية في العصر الأموي إذ مزجت بين كثير من المضامين الشعرية كالفخر والمدح والهجاء والغزل أحيانًا، وقد ارتبط هذا الفن في هذا العصر ارتباطًا وثيقًا بثلاثة من الشعراء هم جرير والفرزدق والأخطل الذين كانوا في عراك كلامي دائم بلغ بهم حد القذف والقذع والشتم، وهم على الرغم من احتدام العراك النقائضي فيما بينهم إلا أنهم لم يسمحوا له أن يتغلغل في ذواتهم فقد ظلت قلوبهم نقية يربطها عقد الصداقة الذي نُسج بفعل النقائض.