شرح أنشودة المطر
بدر شاكر السياب
هو شاعرٌ عراقيّ الجنسيّة وُلد في الخامس والعشرين من ديسمبر لعام 1926 ميلاديًّا في قريةٍ صغيرةٍ تُدعى جيكور، توفّيت والدته وهو في السادسة من عمره، وكان لذلك الحَدَث بالغ الأثر في نفسِه، فقد حزنَ لفراقِها حزنًا شديدًا، أكملَ بدر السيّاب تعليمَه حتّى وصل إلى الجامعة وتخصص في اللغة العربية، وكان يُعرف حينَها بأنّ لديه ميولًا سياسيّة يساريّة ونضالًا من أجل استعادة العراق من يد الإنجليز وكان لديه اهتمام واضح بالقضية الفلسطينيّة، ويُعدّ بدر شاكر السيّاب من مؤسّسي الشعر الحر، فقد تخلّص من قيود الرتابة والقافية والشعر العموديّ إلى حريّة الشعر الحر التي تفتحُ أسارير النفس بالتعبير عن مكنوناتِها بكلّ سهولة، وقد أتقن الإنجليزيّة ببراعة، لذلك فقد ترجمَ العديد من الأعمال الأدبيّة التي وصلت من بلاد الغرب، وفي هذا المقال سيتم شرح أنشودة المطر للشاعر بدر شاكر السيّاب. [١]
شرح أنشودة المطر
اتّخذ بدر شاكر السيّاب من المطر رمزًا تصويريًّا يحمل الكثير من العمق الذي يتحمّل به كلّ المشاق والشوائب النفسيّة وجملة المعاني الإنسانيّة التي تغورُ في النفس فتغزّل في هذه القصيدة بالعراق وخاطبها على أنّها محبوبتُه، واسترسَلَ بسرد الذكريات التي تربطُه بالوطن وما كانت وما آلت إليه الأمور في الآونة الأخيرة، وذكر ما فيها من فقر وجوع رغم كلّ الخيرات المتواجدة فيها، وكلّ ذلك بأسلوب سلسٍ تطربُ له الآذان والعقول، وفيما يأتي شرح أنشودة المطر ومطلعها: [٢]
- عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ
- أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر
- عيناكِ حين تبسمان تورق الكرومْ
- وترقص الأضواء .. كالأقمار في نهَرْ
- يرجّه المجذاف وهْنًا ساعة السَّحَر
- كأنما تنبض في غوريهما ، النّجومْ ..
- وتغرقانِ في ضبابٍ من أسىً شفيفْ
- كالبحر سرَّح اليديْن فوقه المساء
- دفء الشتاءِ فيه وارتعاشة الخريف
- والموتُ، والميلادُ، والظلامُ، والضياء
- فتستفيقُ ملءَ روحي رعشةُ البكاء
- ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانقُ السماء
- كنشوةِ الطفلِ إِذا خافَ من القمر!
- كأنّ أقواسَ السحابِ تشربُ الغيومْ
- وقطرةً فقطرةً تذوبُ في المطر ..
- وكركر الأطفالُ في عرائشِ الكرومْ
- ودغدغت صمت العصافيرِ على الشّجرْ
- أنشودةُ المطر
- مطر
- مطر
- مطر
بدأ الشاعر بالتغزّل في عينَيْ محبوبته ووصفَها بأنّها غاباتُ نخيل في وقت السحر، وكان بذلك يرمزُ إلى غابات العراق في هذا الوقت بالتخصيص وكيف أنّ الهدوء والسكون حين يسدلانِ ستارَهما على العراق تنطلقُ المباهج وتُعزف أنشودة الحياة الي يراها دائمًا في شجر الكروم وفي تحرّك المجاديف برقّة وانعكاس القمر، ويستذكر الشاعر كيف أن النجوم تختبئ خلف الضباب وهنا شبَّه الشاعر النجوم بالكائن الذي يغرق، وشبه الغيوم بالبحر الذي يسبب الغرق للناس، وربط كل هذه الصور الحزينة بالعراق الذي يسودها حزن شديد بسبب الأوضاع العامّة التي يعيشها، واسترسل الشاعر في استذكار العراق بدفء شتائه وارتعاشةِ ربيعِه، وفاضت منه المعاني المزدحمة ما بين الحياة والموت والنّور والظلام، فيجهش بالبكاء بعدها ويرغب في أن يتخلّى عن ارتباطه بالأرض ويتوحّد مع السماء، ويرى الأمل والمستقبل في وجه الأطفال فيستذكر طفولته ويحن إليها، فتبدأ الغيوم بالانقشاع ويهطل المطر قطرة قطرة فيهلّل الأطفال فَرِحين وبدأ المطر محرّكًا لأصوات العصافير يغنّي أنشودة المطر.
- تثاءب المساء، والغيومُ ما تزالْ
- تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقالْ
- كأنِّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام
- بأنَّ أمّه – التي أفاق منذ عامْ
- فلم يجدها، ثمَّ حين لجّ في السؤال
- قالوا له: "بعد غدٍ تعودْ .. "
- لا بدَّ أن تعودْ
- وإِنْ تهامس الرفاق أنهَّا هناكْ
- في جانب التلّ تنام نومة اللّحودْ
- تسفّ من ترابها وتشرب المطر
- كأن صياداً حزينًا يجمع الشِّباك
- ويلعن المياه والقَدَر
- وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ
- مطر
- مطر
وفي استكمال شرح أنشودة المطر، يُكمل الشاعر في هذا المقطع سَرْدَ الذكريات التي تربطه بالوطن، فشبّه الشاعر هنا المساء بأنّه شخصٌ يتثاءب وأنّ الغيوم تبكي ودموعها المطر، وهذا البكاء يشبه بكاء طفل فقد أمه منذ عام ولا ينفكّ عن البحث عنها لكنه لم يجدها وعندما يسأل الناس يقولون له بأنّها ستعود قريبًا محاولين بذلك تهدئته وبعث الأمل في نفسه، فهو يرى الأمل الذي يتسلّح به أبناء الوطن الساعون إلى التحرّر، ويسمع أيضًا همسات من هم خارج العراق يهمسون بأن الشعب في غفوة، وأنّهم لا يكفّون عن لعن حظهم وقدَرهم ويهربون منه إلى الغناء.
- تعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر
- وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر
- وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع
- بلا انتهاء، كالدَّم المراق ، كالجياع
- كالحبّ، كالأطفال، كالموتى هو المطر!
- ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
- وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ
- سواحلَ العراق بالنجوم والمحار
- كأنها تهمّ بالشروق
- فيسحب الليل عليها من دمٍ دثارْ
- أَصيح بالخليج: " يا خليجْ
- يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والرّدى! "
- فيرجعُ الصّدى
- كأنّه النشيجْ:
- " يا خليج
- يا واهب المحار والردى .. "
- أكاد أسمع العراق يذْخرُ الرعودْ
- ويخزن البروق في السّهول والجبالْ ،
- حتى إِذا ما فضَّ عنها ختمها الرّجالْ
- لم تترك الرياح من ثمودْ
- في الوادِ من أثرْ
- أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر
- وأسمع القرى تئنّ، والمهاجرين
- يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع
- عواصف الخليج، والرعود، منشدين:
- مطر
- مطر
- مطر
هنا يوجّه الشاعر كلامه للفتاة المُخاطبة في بداية القصيدة، ويقول لها: هل تعلمين مقدار الحزن الذي بعثه المطر، فهو بدلَ أن يكونَ باعثًا للأمل والفرح أصبح باعثًا للضياع والوحدة، خصوصًا ما توحيهِ صوت المزاريب الذي تزيد من حزن الوحيد الضائع، ويستمرّ هذا الشعور مثل الدم المُراق والجوع والحنين المتجدّد للوطن، كالموتى المُلقَوْن على العتبات، فيتأمل أمواج الخليج وما تأتي به من آمال للشباب المتحمّس الراغب بالتغير وقمع الأنظمة المُتسلّطة والاحتلال والظلم الذي أودى بالحياة في العراق، ويرى أنّ الأمواج لم تأتي بخير فجثث الشباب مترامية ولا أملَ ولا نهايةَ لهذا الظلم، ومع ذلك كلّه فإن الشاعر لم ييأسْ إذْ يسمع الرعود ويرى الاستعدادات القويّة لمواجهة العدوّ الغاصب، فهو يسمع صوت النخيل وهو يشربُ الماء كلّه الذي تنزل به الغيوم، والمهاجرين الذين عادوا إلى أرض الوطن يصارعون الأمواج بالمجاذيف وينشدون: مطر.. مطر.. مطر.
أسلوب بدر شاكر السياب الشعري
عُرف بدر شاكر السيّاب بتمرّده على كلّ ما هو قديم، فهو شاعر ثوريّ تمرّد على التقاليد والأعراف في كتاباته، فترك القوافي والتفاعيل وانطلق إلى الشعر الحرّ الذي يوظّفه على حسب حالته النفسيّة والمزاجيّة، فترك القوالب الشعرية المُتعارف عليها منذ القِدم ليخرج للعالم بنوعٍ جديد من الشعر، وساعده في ذلك جرأةٌ في طبيعتِه وانفتاحٌ على عالم الغرب، والمُلفت في شعر السيّاب تلك الثروة الفكريّة والغزارة المعنويّة، والرمزيّة التصويريّة التي تظهر جليًّا في شِعره كما ظهرت في هذا المقال الذي تمّ فيه شرح أنشودة المطر، وعُرف شِعر السيّاب أيضًا بالجزالة والصِّحة في التراكيب والمحافظة على الوزن؛ فهو رغم تبنّيه نوعًا جديدًا من الشِعر إلّا أنه ما زالَ محافظًا على الوزن في كتاباته، أمّا تراجم السيّاب للشعر الغربيّ فقد كان سببًا في غزارة المعاني لديه وتنويعها بين الكلاسيكيّة والرومانسيّة. [٣]المراجع[+]
- ↑ "بدر شاكر السياب"، marefa.org، اطّلع عليه بتاريخ 16-05-2019. بتصرّف.
- ↑ "أنشودة المطر"، adab.com، اطّلع عليه بتاريخ 18-05-2019.
- ↑ "السيّاب في شعره"، wikiwand.com، اطّلع عليه بتاريخ 18-05-2019. بتصرّف.