سؤال وجواب

المدح في العصر العباسي


المدح في الشّعر العربي

يعدّ غرضُ المدح مكوّنًا أساسيًّا وعمودًا رئيسًا من أعمدة ديوان العرب الشّعريّ، فهو ظاهرة أصيلة قلّما نجد شاعرًا أغفلها ولم يكتب فيها، وهو غرض تقليديّ عرفَه الشّعراء قديمًا، وتبدو مَهمّة الشّاعر فيه إرضاء الممدوح، بل يتعدّى ذلك إلى القبيلة، أو التّيّار السّياسي أو التّيّار الدّينيّ، بمعنى أنّ المدح غَدا أداة تُمكّن الشّاعر من رفعة شأن الممدوح، على اعتبار أنّه الأداة الإعلاميّة الوحيدة في ذلك الوقت، ولذلك حَرصَ الأمراء والملوك على تقريب الشّعراء منهم وضمّهم لمجالسهم وإرضائهم، وبالتّالي ازدهر هذا الغرض، وتسابق فيه الشّعراء، وفي هذا المقال سيتمّ الحديث حول المدح في العصر العباسي. [١]

المدح في العصر العباسي

اختلفتِ البيئة الثقافيّة والاجتماعيّة في العصر العبّاسيّ، وكان التّطوّر والتّغيّر هو السّمة المميِّزة لهذا العصر، فبلغَ هذا التّطوّر أوجهَ قوّتِه، وشمل مجمل مناحي الحياة، وانعكس هذا الأمر على الحالة الأدبيّة والشّعريّة السّائدة في ذلك العصر، وبدأ التّجديد في الأغراض الشّعريّة القائمة، وظهرت أغراض شعريّة جديدة، فإذا ما كان الشّاعر يرسم في مدحته صورة أخلاقيّة مثاليّة للممدوح، فإنّ الشّاعر في العصر العبّاسيّ بدأ يلجأ لتجسيم هذه الصّورة، لا لرسمِها فحسب، بل لتصبح كأنّها تماثيل قائمة نُصبَ أعين النّاس، كي يحتذوها، ويحوزوا لأنفسهم مجامع الحمد والثّناء.

والشّعر في العصر العبّاسيّ أخذ تدريجيًّا طابع الرّسم، فقد وضح فيه عنصرا الزّمان والحركة وتدرّج اللون والإحساس بالزّمن والإيقاع، وإلى قضيّة التّعبير عن قضيّتَيْ الجمال والقبح معًا، ونظرًا لطبيعة الحياة وما طرأ عليها من تطوّر ورُقيّ، لجأ الشّاعر إلى تأنيق اللّفظ، وترصيع المعاني، ولعلّ لطبيعة العصر أثرًا حاسمًا في نزوع الحساسيّة الشّعريّة إلى التّأنق في العبارات والتّدقيق في المعاني.

وللحياة السّياسيّة دورُها البارز في إذكاء روح قصيدة المدح في هذه الفترة، فجاءت معزّزة للقيم السلوكيّة السّليمة، التي لا بدّ أن يسير عليها الحاكم أو الخليفة من عدل وتقوى وجهاد وغيرها، وهذه الصّفات ألحّ عليها الشّعراء في قصيدة المدح؛ لأنّها مطلب من مطالب الحكم الرّشيد، فالشّاعر يعبّر عن رؤية إسلاميّة وأخلاقيّة ثابتة لا تتغيّر بتغيّر الخليفة أو الحاكم، كما كان للثّورات المتعاقبة دورها في نموّ هذا الغرض، سواء أكانت الحروب والثّورات الدّاخليّة أم الخارجيّة، فأخذت قصيدة المدح تسجّل الانتصارات والأحداث وتسبّب ما كان فيها من بطولة إلى الممدوح، كما شاعت في هذا العصر فكرة المواءمة بين الممدوح وصفات المدح، بمعنى اختيار معاني المدح التي تناسب عمل الممدوح ووظيفته. [٢]

سمات شعر المدح في العصر العباسي

كانت تُحرّك الشّعراء في قصائد المدح في العصر العباسي الرّغبة في الحصول على الجوائز الماليّة، التي يغدقها عليهم الممدوحون، وهو ما نجده واضحًا في أخبارهم معهم، فقد كان شعر البحتريّ في المديح أجود منه في الرّثاء، فسئل عن ذلك، فقال: "المديح للرّجاء، والرّثاء للوفاء، وبينهما بُعد"، فضلًا عن أنّ التّنافس الشّديد بين الشّعراء كان وكأنّه الحصول على الجوائز العظيمة، التي كان الممدوحون يَجودون بها عليهم، بل ويتنافسون فيما بينهم بكثرة ما يُعطون للشعراء، ومن هنا غلب على المديح الطّابع التّكسّبي، فضلًا عن سمات أخرى يمكنُ إجمالُها كالآتي: [٣]

  • غَلَبة المقدِّمات الغزليّة، والطّابع الغالبُ عليها هو الغزل العفيف؛ بسبب الوسَط الذي قيلت فيه، وقد ظهرت مقدّمات جديدة مثل وصف السّفن ووصف مظاهر الحضارة والعمران والقصور والحدائق، كما ظهرت مقدّمات الشّكوى من الدّهر في شعر أبي تمّام في العصر الأوّل، والمتنبّي في العصر الثّاني، أمّا مَطالعُ القصائد فقد جاءت مصرّعة إلّا ما ندَر من القصائد التي ابتدأت بوصف القصور.
  • غَلبة الطّابع التّكسّبي، إذ يصرّحُ الشّاعر بالسّؤال من الممدوح واستجدائه، وفيها يبرزُ التّكلّف والتذّلّل.
  • ظهورُ مدح المدن وبيان محاسنها وتَعداد فضائلها ومآثرها.
  • ومن سمات المدح في العصر العباسي الملاءمة بين الصّفات والموصوفين.
  • طرأ تغيّر على الرّحلة، فلم تعد تقتصر على النّاقة بل شملت الرّحلة البحريّة أيضًا.
  • طرأ تغيّر على الصّورة الشّعريّة، إذ فأصبحت مركّبة بعد أن كانت بسيطة، وإيحائيّة بعد أن كانت واضحة، ومبتكرة بعد أن كانت تعتمد في كثير من الأحيان على المقارنة بين الشّخص الممدوح وأعدائه.
  • قلّة التّجديد والاقتداء بالقديم مراعاةً للضّوابط التي وضعها النّقاد للقصيدة الجيّدة.
  • امتزاج المديح بالسّياسة، ممّا أدّى إلى غلبة الاحتجاج العقليّ فيه لتأكيد أحقيّة الممدوح بالخلافة أو الإمارة أو غيرها.
  • ندرة المديح النّبويّ، واقتصاره على الفقهاء والزّهاد.
  • اختلف أنموذج الحوار مع الزّوجة بين الشّعر الجاهليّ والشّعر العبّاسيّ في بعض الأحيان؛ إذ كانت المرأة تحاول منع الشّاعر من الرّحيل خوفًا عليه من الموت في العصر الجاهليّ، في حين تحثّه عليه رغبة في كسب المال في الشّعر العبّاسيّ، وقد كان ذلك الحوار موضوعًا من موضوعات قصيدة الفخر في الشّعر الجاهليّ، فأصبح موضوعًا من موضوعات المديح في الشّعر العبّاسيّ.

شواهد شعريّة من العصر العباسي

كان الإنتاجُ الأدبيّ في العصر العبّاسيّ زَخمًا؛ فقد ظهرَ العديد من الشعراء ممّن انبرت أشعارهم في خدمة الفنّ والجمال، كيف وقد رأى بعضهم في الشعر حلًّا جماليًا لهذه الحياة، ورى آخرون فيه مُتَنفَّسًا جيّدًا من كابوس الوجوديّة، وفيما يأتي شواهد عباسيّة يعبّر كلٌّ منها عن إحدى سمات الشعر في ذلك العصر:

  • قال أبو دلامة يمدح المنصور في أبياتٍ حِواريّة: [٤]

لا والذي يا أمير المؤمنين قضى

لكَ الخلافةَ في أسبابها الرّفعُ

ما زلتُ أخلصُها كسبي فتأكلُّه

دوني ودونَ عيالي ثمّ تضطجعُ

ذكّرتُها بكتاب الله حرمتنا

ولم تكن بكتاب الله ترتجعُ

فَاخْرَنْطَمَتْ ثمّ قالت وهي مغضبة

أأنت تتلو كتابَ الله يا لكعُ!

أخرجْ تبغِ لنا مالًا ومزرعةً

كما لجيراننا مالٌ ومزدرعُ

واخدعْ خليفتنا عنّا بمسألةٍ

إنّ الخليفةَ للسّؤال ينخدعُ
  • قال عليّ بن جبلة يمدح حميد بن عبد الحميد الطّوسيّ مُلائمًا بينَ صفات المدح وممدوحِه: [٥]

بطاعةِ اللهِ طلتَ النّاسَ كلّهم

ونصحُ هادِ أمينِ الملكِ مأمونُ

حميدٌ يا قاسمَ الدّنيا بنائلةٍ

وسيفُهُ بينَ أهلِ النّكثِ والدّينِ

أنتَ الزّمانُ وقدْ يجري تصرّفُهُ

على الأنامِ بتشديدٍ وتليينِ

لو لم تكنْ كانتْ الأيّامُ قدْ فنيتْ

بالمكرماتِ وماتَ المجدُ مذْ حينِ
  • قال البحتريّ يمدح ابن الفرات في أبياتٍ يغلبُ عليها الطابعُ التكسّبي: [٦]

مَنْ مُعِيني منكمْ على ابنِ فُرَاتٍ

وَمُجازَاةِ مَا أنَالَ وَأسْدَى

يَعْجِزُ الشّعْرُ عنْ مجاداةِ خِرْقِ

أرْيَحيّ، إذا اجْتدَيْنَاهُ أجْدَى

كُلّما قُلْتُ أعْتَقَ المَدْحُ رِقّي

رَجّعَتْني لَهُ أيادِيهِ عَبْدا
  • يقول عمارة بن عقيل يمدح مدينة بغداد: [٧]

أعاينتُ في طولٍ من الأرضِ والعرضِ

كبغدادَ دارًا إنَّها جنّةُ الأرضِ

صفا العيشُ في بغدادَ واخضرَّ عودُهُ

وعيشٌ سواهُ غيرُ صافٍ ولا غضِّ

تطولُ بها الأعمارُ إنَّ غذاءَها

مريءٌ وبعضُ الأرضِ أمرأُ من بعضِ
  • يقول أشجع السّلمي يمدح الرّشيد: [٨]

قَصرٌ عَلَيهِ تَحِيَّةٌ وَسَلامُ

نَثَرَت عَلَيهِ جَمالَها الأَيّامُ

فيهِ اِجتَلى الدُنيا الخَليفَةُ وَاِلتَقَت

لِلمُلكِ فيهِ سَلامَةٌ وَدَوامُ

قَصرٌ سُقوفُ المُزنِ دونَ سُقوفِهِ

فيهِ لِأعلامِ الهُدى أَعلامُ

المراجع[+]

  1. "المدح في الشعر"، www.wikiwand.com، اطّلع عليه بتاريخ 31-05-2019. بتصرّف.
  2. "شعر(أدب) - أغراض الشعر العربي - المدح"، www.marefa.org، اطّلع عليه بتاريخ 31-05-2019. بتصرّف.
  3. "الشعر خصائصه ‘أغراضه وفنونه ،غرض المديح"، www.uobabylon.edu.iq، اطّلع عليه بتاريخ 31-05-2019. بتصرّف.
  4. "ذكر شيء من نوادر أبي دلامة"، www.books.google.com، اطّلع عليه بتاريخ 31-05-2019.
  5. "ugd fk [fgm"، www.books.google.com، اطّلع عليه بتاريخ 31-05-2019.
  6. "البحتري >> بت أبدي وجدا وأكتم وجدا "، www.adab.com، اطّلع عليه بتاريخ 31-05-2019.
  7. "باب المحفوظ من مناقب بغداد وفضلها"، www.shamela.ws، اطّلع عليه بتاريخ 31-05-2019.
  8. "الرشيد والخليفة الثاني الكاذب"، www.shamela.ws، اطّلع عليه بتاريخ 31-05-2019.