النثر في العصر العباسي الأول
محتويات
النثر العربي القديم
قيل: "أصلُ الكلامِ مَنثور، ولمّا رأت العرب المنثور يندّ عليهم، وينفلت من أيديهم، ولم يكن لهم كتابٌ يتضمّن أفعالهم، تدبّروا الأوزان والأعاريض فأخرجوا الكلام، أحسن مخرج بأساليب الغناء، فجاءهم مستويًا"، يُفهم من الكلام السّابق بأنّ النّثر العربيّ قد سبق الشّعر الجاهليّ في معرفته وظهوره، ولكن حاجة المجتمع إلى ما يطرب الآذان ويبهح النّفس من جهة، وعدم قدرة المجتمع على حفظ الكلام المنثور، إذ كان يندّ من أيديهم لعدم معرفتهم بالكتابة إلّا ما ندر وعدم قدرتهم على حفظه، فضاع كثيره ولم يبق إلّا قليله، فمالوا إلى الشّعر لسهولة حفظه بسبب نظمه، وبعد هذه المقدّمة، سيتمّ التّعرّف على النثر في العصر العباسي الأول. [١]
النثر في العصر العباسي الأول
يتّسم العصر العبّاسي بأنّه عصر الكتابة؛ وذلك لتطوّر الكتابة فيه تطوّرًا هائلًا من خلال أدواتها المادّيّة من الأقلام والأوراق وغيرها من جهة، ولتناوله كلّ مجالات الحياة واستخدام الدولة له في الشؤون الاجتماعية والثقافية، واتّصاله بالسّياسة والإدارة التي اصطبغت بصبغة أجنبيّة من جهة أخرى، بالإضافة إلى التّطوّر الاجتماعي والثّقافي عن طريق التّمازج الحضاري والثّقافي، من خلال التّرجمة، ودخول الإسلام من قبل أقوام أخرى وانخراطها في الثّقافة العربيّة والإسلاميّة، وقد أبدى النّثر العربيّ مرونة واسعة باحتوائه كلّ هذه الرّوافد، وأن يتّسع لها صدره، وجرّاء ذلك فقد تعدّدت أنواع النثر في العصر العبّاسي الأول، ولكنّها من حيث الإجمال تنقسم إلى قسمين كالآتي. [٢]
فنون النثر الشفاهي
وهي فنون نثر شفاهيّة، تعتمد على الإلقاء مشافهة على السّامعين غالبًا، بُغية الوعظ والإرشاد والتّوجيه؛ دون الحاجة إلى الكتابة، وأحيانًا قد تكتب وترسل إذا كان المقصود بالكلام بعيدًا وغير موجود على مقربة الكاتب، باستثناء المناظرات، وهذه الفنون هي:
- الخطابة: هي فنّ نثريّ عربيّ عرف قبل الإسلام، نشأ مع نشوء الشّعر الجاهليّ أو قبله، ومع ظهور الإسلام تطوّر وظهرت فيه أنواع جديدة بسبب ضرورات الدّين الجديد، وبمجيء الأمويين إلى السّلطة، نشطت الخطابة السّياسيّة، وازدادت نشاطًا بانتقال الخلافة إلى العبّاسيين، حيث اتّخذها العبّاسيّون أداتهم في بيان حقّهم في الحكم.
- المناظرات: هي فنّ نثريّ، كانت تقع بين الخطباء من خلال المناقشة والحوار والجدل، ويعود اكتماله للقرن الهجري الثّاني، حيث كان للعبّاسيين دورٌ كبير في تعميقها، وتهيئة الظّروف لإقامتها في مختلف الموضوعات.
- الوصايا: ظهر هذا الأدب النّثري أدب الوصايا ظهورًا تدرّجيًّا؛ حيث كان للثّقافات المختلفة التي امتزجت بالثّقافة العربيّة دورها في رفد الوصايا بمعانٍ مختلفة، ومضامين جديدة، استمدّت من الدّين وحضارات الأمم الأخرى، إضافة إلى الوصايا والمواعظ التي قدّمها الأدباء والوعّاظ والنّسّاك بين يديّ الخلفاء والوزراء والأهل والأصحاب.
- الأمثال والحكم: هناك صلة وثيقة بين الأمثال والحِكم؛ وكثيرًا ما تحوّلت الحكم إلى أمثال سائرة بين النّاس، وكما هو معروف المثل: هو موجز سائر، مصيب في معناه، تشبه به حالة جديدة بحالة سالفة، والأمثال صادقة في التّعبير عن الحياة.
فنون النثر الكتابي
وهي فنون نثرٍ كتابيّة، تعتمد على الكتابة والتّوثيق، إذْ لا يمكن أن تكون مشافهة كسابقتها إلّا على قلّة كالرّسائل، بينما فنون النثر الشّفاهي يمكن أن تكون كتابيّة باستثناء المناظرات كما سبق الحديث عنها، والفنون الكتابيّة هي:
- الرّسائل: الرّسائل: فنّ من فنون النثر، ظهرت، وازدهرت مع الفتوحات الإسلاميّة، وقد حثّ النّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- المسلمين على وجوب تعلّم القراءة والكتابة، إذ كان يرسل برسائل دعويّة دول مجاورة، وكذلك في عصر الخلفاء، تمّ تبادل الرّسائل بين الخلفاء وبين الولاة، وفي عهد الدّولة الأمويّة، اتّخذ معاوية ديوانًا للرّسائل، وفي العصر العبّاسيّ، ازدهر ديوان الرّسائل، واتّخذ ولاة الأقاليم والوزراء والقادة دواوين مشابهة له.
- التّوقيعات: فنّ نثريّ، وهي توقيع الخليفة أو الأمير أو الوزير أو الرّئيس أو ردّه على ما يقدّم إليه من الكتب في طلب نوال أو شكوى حال، وقد تكون آية أو حديثًا أو مثلًا أو بيت شعر.
- الإنشاء المرسل، أو أسلوب المؤلّفين: ظهر، وازدهر في العصر العبّاسي الأوّل، ويختلف شكلًا ومضمونًا عن أسلوب المراسلات، حيث كان النّاس مضطرّين للتّأليف من إبداعهم، أو بنقل أفكار غيرهم من اللّغات عن طريق التّرجمة، وأشهر من فعل ذلك في هذا العصر، عبد الله بن المقفّع في نقل كتاب "كليلة ودمنة".
أعلام النثر في العصر العباسي الأول
لقد تطوّر النثر في العصر العباسي الأول وازدهر من خلال أعلامه الذين كانت لهم اليد الطّولى في ذلك، وبدعم من البيت العبّاسيّ الذي فتح لهم أبوابه لإكرامهم، وقضاء حوائجهم، وكان من أبرز أعلام العصر العبّاسيّ الأوّل: [٣]
ابن المقفّع
روزبه بن داذُوِيه، كان ثمرة من عناقيد الثقافة الإسلاميّة، وزعيم الطّبقة الأولى رغم فارسيّته، وما أشيع عن زندقته، ولد بجوزستان بفارس عام 106 أو 107 للهجرة من أب فارسيّ مجوسيّ، لكنّه استعرب سريعًا لوجوده بين مواليه آلـ الأهتم التّميميين في البصرة، وهم أهل لسنٍ وفصاحة وخطابة، وأدبٍ وبيان، فكان يعمل في دواوين الحجّاج، ومات مجوسيًّا، فنشأ ابنه على ملته، إلّا أنّه قد عني عناية شديدة بتأديبه، حتى أتقن اللّغتين الفارسيّة والعربيّة وأسلم، فتكسب من صنعة أبيه فعمل في دواوين العراق، قتله المنصور بتهمة الزّندقة، غير أنّ الحقيقة قتله للأمان الذي كتبه لعبد الله بن عليّ عمَ المنصور، ترك رسائله العديدة وكتابَيْه: الأدب الصغير والأدب الكبير وكتاب كليلة ودمنة، ورسالة الأخلاق، ونقل من الفارسيّة إلى العربيّة الكثير ولكنّه فقد أغلبها، ولم يصل إلينا، مثل: "أخداي نامة" وهو كتاب في سيرة الملوك.
أحمد بن يوسف
أحمد بن يوسف بن صبيح الكاتب الكوفي أبو جعفر من أهل الكوفة، يُقال: إنّه كان مولى لبني عجل بسواد الكوفة، فولي ديوان الرسائل للمأمون، فأصبح وزيرًا له بعد أحمد بن أبي خالد، مات في رمضان سنة ثلاث عشرة ومئتين أو أربع عشرة ومئتين، وكان أبوه كاتبًا لعبد الله بن علي عم المنصور، ثم التحق بدواوين المنصور، وبقي يكتب فيها حتّى عهد الرّشد، وقد أحسن تربية ابنه أحمد تربية جيدة، حتّى يعدّه للكتابة في الدّواوين، علّمه العربيّة كما علمه الحلال والحرام، فغدا أحمد وأخوه القاسم أديبين شاعرين وأولادهما جميعًا أهل أدب، يطلبون الشّعر والأدب والبلاغة، فكان أحمد مثالًا للكاتب الحاذق، حكى عن المأمون وعبد الحميد بن يحيى الكاتب، وحكى عنه ابنه محمد بن أحمد بن يوسف وعلي بن سليمان الأخفش وغيرهما.
عمرو بن مسعدة
عمرو بن مسعدة بن سعيد بن صول أحد ملوك جرجان، تركيّ الأصل مجوسيّ، وقد اعتنق الإسلام، وكان ابنه سعيد من دعاة الدّولة العبّاسيّة، وقد أخذ خالد البرمكيّ مسعدة ليكون كاتبًا بين يديه في وزارته للسّفّاح والمنصور، وبقي حتّى تقلّد رئيس ديوان الرّسائل، وولد له ابنه عمرو، فعني بتربيته حتّى صلح للكتابة في دواوين الدّولة، ونشأ متثقّفًا بالثّقافة العربيّة والإسلاميّة، وأصبح لسنًا فصيحًا، بل وشاعرًا مبدعًا، ونجح في علوم متنوّعة، وربّما وقف على كتابات الفرس والحكمة الهنديّة والفلسفة اليونانيّة.
المراجع[+]
- ↑ "سمات النثر الجاهلي"، www.uobabylon.edu.iq، اطّلع عليه بتاريخ 17-06-2019. بتصرّف.
- ↑ "النّثر الجاهلي"، www.marefa.org، اطّلع عليه بتاريخ 17-06-2019. بتصرّف.
- ↑ شوقي ضيف (2004)، سلسلة تاريخ الأدب العربي - العصر العبّاسي الأوّل (الطبعة 16)، مصر: دار المعارف، صفحة 552-541-507. بتصرّف.