سؤال وجواب

قراءة في قصيدة لا تصالح


أمل دنقل

وُلد دنقل عامَ 1940 بقرية القلعة، التابعة لمحافظة قنا في صعيد مصر، تعرّف القارئ العربيّ على شعره من خلال ديوانه الأول البكاء بين يدي زرقاء اليمامة، وقد جسّد فيه إحساس الإنسان العربي بنكسة 1967، وكان يعكس الوعي بالقضايا العربية التي يعايشها الشاعر، وصدرت له ست مجموعات شعرية هي: البكاء بين يدي زرقاء اليمامة 1969، تعليق على ما حدث 1971، مقتل القمر 1974، العهد الآتي 1975، أقوال جديدة عن حرب البسوس 1983، وقد توفّي بمرض السرطان عام 1983 في القاهرة. [١]

بين يدي القصيدة

كُتبت القصيدة ما بين عامَيْ -1976-1977- وهي ناقصة؛ لأنّ الشاعر أراد أن يكمل الشهادات المتعلقة بالشخصيات التي استحضرها من الأخبار التاريخية والسيرة الشعبية عن حرب البسوس، وهي شهادة المهلهل أخي كليب، وشهادة جساس ابن عمه القاتل، وشهادة جليلة بنت مرة، وهي بين نارين: نار القتيل زوجها "كليب" ونار القاتل أخيها جساس بن مرة، بالإضافة إلى شخصيات أخرى، ولكن الشهادات لم تكتمل، وبقيت حبيسة عقل الشاعر وذهنه، ولم تكتب؛لأن مرضه أعياه، والموت خطفه من الحياة، فانقطع مداد قلمه وإبداعه، ولم يصل للمتلقي رؤية الشاعر كاملة. [٢]

وتميزت القصيدة باستشرافها لمستقبل الواقع العربي، فقد جعل الشاعر قصة حرب البسوس التاريخية والشعبية هي المنبع الذي يستقي منه شخصياته في القصيدة، ويصل من خلالها إلى الواقع الحاضر ويتنبأ بالمستقبل، بحيث إنه ربطها بالصراع العربي الإسرائيلي الذي لا خيار معه إلا الدم والقتال بعيدًا عن الصلح، كما يظهر هذا في رؤية القصيدة، التي تنسحب على رؤية الشاعر وتنسجم معها، وهي رؤية ثاقبة لما يمكن أن يحدث مخالفًا لما يمكن أن يكون عليه الحال والواقع، ويؤكد ذلك توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام، فكأن الشاعر كان يدعو لعدم الصلح؛ لأنه يشعر بميل قادة العرب إلى الصلح مع العدو، وهذا ما تحقق بعد كتابة القصيدة بسنة واحدة، فكان توقيع الاتفاقية في عام 1978، وبذلك يكون الشعر معبّرًا عن الوجدان والشعور، فاستحق أن يسمّى شعرًا، ويخلد أصحابه ورؤاهم الثاقبة التي تعطي النص الشعري مرونة في التأويل والنقد، ولكن تبقى القصيدة سر يبحث عن مفتاحه، فالشعر نبض الشاعر ورؤيته للكون، وللإنسان، وللحياة. [٢]

ويعبّر أمل دنقل في هذه القصيدة عن نزيف الواقع العربي الذي يتحول بين يديه بوصفه مبدعًا إلى موسيقى وثورة شعرية، مستلهمًا الماضي؛ ليضيء حرفه الحاضر والمستقبل معًا، ولهذا فإن القصيدة رحبة بالانفعالات والغضب الذي ينبض به قلب الشاعر المرهف الحس، فيخرج رؤيته بقصيدة إيقاعها صاخب، وصوتها خطابي، وكأنه يصرخ في وجه المتلقي، وهذا جليّ في "لا تصالح"، وهذا يجعل الحياة تتجلى في النص، ويحاول صوت القصيدة أن يحيي الضمير العربي، والوجدان، ليبقى في النفس، ويؤثر في القارئ، بعد مرور هذا الزمن على كتابته. [٢]

قراءة في قصيدة لا تصالح

إن قصيدة أمل دنقل بمثابة أقوال جديدة في حرب البسوس، هي شهادتان: شهادة كليب في "الوصايا العشر" في "لا تصالح"، وشهادة اليمامة في "أقوال اليمامة ومراثيها"، فيستمع القارئ إلى صوتين في القصيدة، وتاليًا حديثٌ حول القصيدة والقناع، إضافة إلى التناص في قصيدة لا تصالح.

القصيدة والقناع

الشاعر مبدع، يخلق نصًّا إبداعيًّا بمخيّلته وبقدرته الشعرية، مستفيدًا من التفاصيل والتراث ، ويستدعيها بأسلوب فني مُحَوّر عن البعد التراثي الحقيقي للوصول بها إلى الواقع الذي نعايشه؛ليعبر الشاعر عن رؤيته في تجربة شعرية تظهر قدرته على فهم واقعه من خلال بعث الحياة في تراث الأمة، فيتحول إلى طاقة إيحائية في شكل فني شعري جديد، يبتعد فيه الشاعر عن التكرار والإعادة دون التغيير في وقائع القصة، كما هي في التراث، وبهذا يصل الحاضر بالماضي ناهلاً من تراث الماضي، واصلًا بين زمنين، ومستشرفًا للمستقبل، وهذا يجعل قصيدة الشاعر تبتعد عن الإغراق في الفردية وتتجاوز ذلك إلى الجماعة، وهذا ما يجعل الشعر ضوء الحقيقة أو ومضات من الحقيقة. [٣]

وثمّة تشابه بين عدد الوصايا التي كتبها "كليب" لأخيه وهي عشر وصايا، و عدد مقاطع القصيدة والاستفادة من الوصايا في السيرة الشعبية جعل الشاعر يصل بالقصيدة إلى التقنع بشخصية " كليب" في الماضي، وأضاف إليها من رؤيته؛ لتصبح متناسبة مع الحاضر، وهذا أدى إلى وجود صراع درامي في القصيدة، ومن خلال القناع يركز الشاعر على جملة واحدة وهي: " لا تصالح" وهي لازمة تتكرر عند الانتقال من مقطع إلى آخر، بوصفها محوراً أساسياً في قصيدة الوصايا لتأكيد عدم الصلح بلا الناهية والفعل المضارع المجزوم الذي يوجب حسم القضية مع الأعداء، فالصلح ليس مقبولًا مهما كان السبب. [٣]، وظهر هذا في قول الشاعر: [٤]

إنها الحرب!
قد تثقل القلب
لكن خلفك عار العرب
لا تصالح
ولا تتوخ الهرب!

ولذلك يدفع " كليب" بأخيه إلى الثأر، وظهر هذا في القصيدة: [٤]

سيقولون:
جئناك كي تحقن الدم ..
جئناك . كن - يا أمير - الحكم
سيقولون:
ها نحن أبناء عم.
قل لهم : إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك.

ومن يقرأ قصيدة لا تصالح يلاحظ أنّها تمثل اتّكاء مباشرًا على وصية كليب لأخيه المهلهل. [٥]

التناص في قصيدة لا تصالح

التناصّ هو تداخل النصوص التاريخيّة أو الأدبيّة مع النص الأصليّ للقصيدة، ويكون هذا التناص منسجمًا مع نص القصيدة وما يريد الأديب التعبير عنه، وقد ظهر هذا بوضوح في قصيدة "لا تصالح" عندما استدعى الشاعر قصة حرب البسوس كما ذكر سابقًا وهو تناص تاريخي [٦]، ويمكن إضافة موضع آخر في القصيدة وهو: [٤]

لا تصالح، ولو حذرتك النجوم
ورمى لك كهانها بالنبأ

فكأن الشاعر يستدعي بين ناظريه -فيما يمكن أن يقالَ من أسباب يتذرّع بها مَن لا يريد الحرب- قصيدة أبي تمام في فتح عمورية، ويظهر في البيتين أدناه تناصّ أدبيّ بين قصيدة أبي تمام وقصيدة لا تصالح لأمل دنقل، يقول أبو تمّام: [٧]

السَّـيْـفُ أَصْـدَقُ إنْـبَــاءً مِـنَ الـكُتُـبِ

في حدّه الـحَـدُّ بَـيْـنَ الـجِـد واللَّعِـبِ
 أَيْـنَ الروايَةُ بَـلْ أَيْـنَ النُّـجُـومُ وَمَـا                                                                     
صاغُـوه مِنْ زُخْـرُفٍ فيها ومنْ كَــذِبِ

المراجع[+]

  1. "نبذة حول : أمل دنقل"، www.adab.com، اطّلع عليه بتاريخ 24-06-2019. بتصرّف.
  2. ^ أ ب ت أمل دنقل، أمل دنقل، الأعمال الشعرية الكاملة، بيروت: دار العودة، صفحة 354-355-356. بتصرّف.
  3. ^ أ ب خالد الكركي (1989)، الرموز التراثية العربية في الشعر العربي الحديث (الطبعة الأولى)، بيروت: دار الجيل، صفحة 88. بتصرّف.
  4. ^ أ ب ت "لا تصالح"، www.adab.com، اطّلع عليه بتاريخ 24-6-2019.
  5. خالد الكركي (1989)، الرموز التراثية العربية في الشعر العربي الحديث (الطبعة الأولى)، بيروت: دار الجيل، صفحة 89. بتصرّف.
  6. مبارك العوضي (2014)، تقنيات بناء القصيدة في شعر أمل دنقل ومحمد الفيتوري التناص نموذجًا (دراسة في الشعر الحديث) (الطبعة الأولى)، عمّان: وزارة الثقافة، صفحة 204. بتصرّف.
  7. "السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ"، www.adab.com، اطّلع عليه بتاريخ 24-06-2019.