تأملات في سورة البلد
سور القرآن
السّوَر جمع سورة، وهي كلّ منزلة من البناء، ومنه سورة القرآن؛ لأنّها منزلة بعد منزلة مقطوعة عن الأخرى، والجمع سُوَر، وجمعها سوْرات، أو سوَرات، بسكون الواو أو فتحها، وقيل إنّها قد سُمّيت بذلك لشرفها وارتفاعها كما يُقال لما ارتفع من الأرض: سور، وكذا قول العرب للنّاقة التّامّة: سورة، وأمّا اصطلاحًا: فهي طائفة من آيات القرآن قد جُمعَت وضُمَّ بعضُها إلى بعض حتّى بلغت في الطّول المقدار الذي أراده اللّٰه-تعالىٰ-لها.[١] وإذا أراد المرء أن يتأمّل قليلًا في آيات كتاب اللّٰه؛ فإنّه سيحار ماذا سيقرأ ليصل إلى شيءٍ ممّا أُريد في هذه الآيات، وفي الفِقرة القادمة سيقف هذا المقال مع تأملات في سورة البلد.
تأملات في سورة البلد
وقوفًا عند تأملات في سورة البلد، والبداية مع فاتحة هذه السّورة، وهو القسم بمكّة المكرّمة، ثمّ القسم إنّ الإنسان قد خُلِقَ في مشقّة ومكابدة، فما الرّابط بين الأمرين؟ الحقيقة أنّ الرّابط هو النبي -صلّى اللّٰه عليه وسلّم-؛ إذ كان وقتها في مكّة، وكان يلاقي فيها العنت، والمشقّة والتّكذيب، والإيذاء وهو يبلّغ الدّعوة، فقال له تعالى إنّ الإنسان قد خُلِق في مشقّة وتعب ومكابدة؛ ليُسلِّي النبيّ -صلّى اللّٰه عليه وسلّم-، وليصبّره على طريق دعوته الذي ما يزال في بدايته.[٢]
وعند الاطلاع على جوانب أخرى من السّورة، فسيلاحظ وجود ترابط مع السّورة التي قبلها، وهي سورة الفجر، وتحديدًا في قوله تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}[٣]، وهذا الترابط يأتي مع ما ذُكر في سورة البلد في الحضّ على الإنفاق على الأيتام والفقراء والمساكين، وذلك في قوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}[٤]، وهذا الترابط قد تنبّه له علماء الأمّة الأوائل، فقال-مثلًا-صاحب روح المعاني إنّ اللّٰه -جلّ وعلا- لمّا ذكر الذين يحبّون المال، ويأكلون التّراث وذمَّهم، ذكر في هذه السّورة المطلوب من صاحب المال، وهو فكّ الرّقبة؛ أي إعتاق العبيد، وهذا يلزم مالًا لشراء العبيد وإعتاقهم، وكذا الإطعام في يوم المسغبة، وهو وقت المجاعة.[٢]
وذكر أيضًا أصناف الأيتام من أولي القربى، والمساكين، وكذا عندما ذكر في سورة الفجر النّفس المطمئنّة، فإنّه ذكر في هذا السّورة بعضًا من الأمور التي يحصل العبد بها على الاطمئنان، وأخيرًا يمكن القول إنّ هذه السّورة-أي البلد-قد استوفت عناصر الإبلاغ، والإرسال؛ فقد ذكرت موطن الرّسالة، وهي مكّة، في قوله تعالى: {بِهَٰذَا الْبَلَدِ}[٥]، وكذا ذكرت الرّسول، وذلك في قوله -عزّ وجلّ-: {وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ}[٦]، وذكرت كذلك المرسلَ إليهم، وهم {الْإِنسَانَ}[٧]، و{وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}[٨]، وكذلك ذكرت الرّسالة التي ينبغي للمرسل إليهم أن يعوها، وهي الإيمان والأعمال الصّالحة من {فَكُّ رَقَبَةٍ}[٩]، و{إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ}.[١٠][٢]
ذُكِر في هذه السّورة أيضًا أصناف الخلق بالنّسبة للاستجابة لهذه الرّسالة، وهم أصحاب الميمنة الذين اقتحموا العقبة، وأصحاب المشأمة الذين هم الكافرون، فسبحان اللّٰه أيّ عموم هذا، وأيّ استيفاء، وأيّ شمول؟! فهذا كلام لا ينكر نسبته للعزيز الجبّار إلّا من كان جاهلًا، أو كان خبيث الجوهر، واللّٰه تعالى أعلى وأكبر.[٢]
مسألة في سورة البلد
بعد الوقوف السّابق مع تأملات في سورة البلد تقف هذه الفقرة مع ما جاء في كتاب أحكام القرآن لابن العربي؛ إذ ورد في كتابه عدّة مسائل في ثلاث آيات في سورة البلد، ولعلّ هذا المقال يضيء على مسألة في آية واحدة فقط؛ لأنّ الاستفاضة في موضوع كهذا لا يكفيه مقال، بله أن تكفيه فِقرة، ولكن لا بأس بوقفة قصيرة وإضاءة على حكم آية قد أشكلت على العامّة، واختلف العلماء في حكمها، ففي قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}[١١] اختلف العلماء فيها، فقد قرأ الحسن البصريّ والأعمش وابن كثير {لأقسم}، من دون ألف، وبذلك صارت قسمًا صريحًا، وقرأ النّاس {لَا أُقْسِمُ}، وبذلك كانت لا أداة نفي، وذهب بعضهم إلى أنّها صلة في اللّفظ، وهذا كثير في ما، إلّا أنّ الشّعراء قد استعملوا هذا التركيب -أي أن تكون لا صلة ليس إلّا- في بعض أشعارهم، كقول الشّاعر:[١٢]
تذكّرت ليلى فاعترتني صبابة
- وكاد ضمير القلب لا يتقطّع
المراجع[+]
- ↑ "معنى السورة لغة واصطلاحا"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 21-7-2019.
- ^ أ ب ت ث فاضل صالح السّامرّائي (2003)، لمسات بيانيّة (الطبعة الثّالثة)، عمّان-الأردن: دار عمّار، صفحة 241 وما بعدها.
- ↑ سورة الفجر، آية: 19+20.
- ↑ سورة البلد، آية: 14-16.
- ↑ سورة البلد، آية: 1.
- ↑ سورة البلد، آية: 2.
- ↑ سورة البلد، آية: 4.
- ↑ سورة البلد، آية: 3.
- ↑ سورة البلد، آية: 13.
- ↑ سورة البلد، آية: 14.
- ↑ سورة البلد، آية: 1.
- ↑ "أحكام القرآن لابن العربي"، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 21-7-2019. بتصرّف.