الاستدعاء في الشعر العربي
محتويات
مفهوم الاستددعاء
اشتقّت كلمة الاستدعاء من الفعل دعا، ويُقصد بها في المفهوم اللغوي أنّها بمعنى الدعوة والنداء، إذ جاءت في مختلف معاجم اللغة العربية، مثال ذلك معجم متن اللغة، فجاءت كلمة استدعاء فيه بمعنى دعا دعاء، أي الدعوة إلى الشيء، والاستدعاء أصل معناه هو طلب الدعاء أو الدعوة[١]، أمّا المفهوم الاصطلاحي لكلمة استدعاء فهي تحمل أكثر من معنى، إذ تأتي بمعنى الاستلهام، والاستحضار، والتوظيف، والاستعانة، والتناص، والتضمين، وغيرها، وبشكل أدق وأكثر تفصيلًا فإن معنى الاستدعاء هو توظيف الشخصية التراثية في الشعر العربي، أي استخدامها لتعبر عن تجربة الشاعر، فتصبح وسيلة تعبير وإيحاء في يد الشاعر وفي النص الأدبي، فيعبر الشاعر عن رؤياه المعاصرة ولكن بوسيلة تراثية، أو بشكل أدق من خلال الاستعانة بشخصية تراثية، ويسمى هذا النوع من الاستدعاء بتناص الشخصيات، وبذلك كان الاستدعاء وسيلة من الوسائل التي استخدمها الشعراء والأدباء في سبيل النهوض بالتراث، وإعادة إحيائه، عن طريق تداوله وتوظيفه في النصوص الأدبية، سواء الشعرية أم النثرية.[٢]
الاستدعاء في الشعر العربي
كثير من الشعراء في الأدب العربي قاموا بتوظيف الاستدعاء، أو بمعناه الآخر وهو "التناصّ"، ويقصد بالتناص هو حدوث علاقة تداخل بين نص وآخر، فالعلاقة القائمة بين جميع الأعمال الأدبية، سواء النثرية أم الشعرية هي اللغة، تلك اللغة التي تطورت مع العصور، وأصبح كل عصر يستفيد بما سبقه، وفي إطار الاستدعاء والتناص سيظهر أنهما معنى واحد يدلان على العودة إلى الوراء واقتباس الألفاظ والشخصيات، ويكون هذا الاقتباس ذات وظيفة واضحة في توجيه الدلالة، واستقامة المعنى التي يطمح الكاتب إلى إيصاله، وإلى التماس الألفاظ من محاسنها، والشخصيات من أفضلها، وللاستدعاء أو التناص محاذير ومعايير يجب الأخذ بها، فلا يمكن أن يستدعي الكاتب شخصية منبوذة أو غير محببه فذلك يقلل من قيمة عمله، إضافة إلى أنه لا بد من التأدب مع الشخصية المستدعاة، فلا يجوز لكاتب أن يستدعي شخصية ويقلل من شأنها أو قيمتها، فالاستدعاء يعدّ نسقًا من الأنساق التي تنهض بمستوى الكتابة، وببلاغة النص المكتوب.[٣]
كذلك لا بد من الإشارة إلى أن النصوص الأدبية من خلال الاستدعاء فإنها تتفاعل مع الحياة، ومع النصوص الأخرى، فالنصوص هي ممارسات دلالية متماسكة، مهما اختلفت وسيلة الوصول لهذه الدلالة، فلكل نص دلالته الخاصة، ووسيلته الخاصة، تلك الدلالة التي تخفت بقناع الاستدعاء واقتربت من كونها رمزًا يسعى المتلقي لمعرفته وتحليله، ودراسة دلالته، إذن فالاستدعاء في الشعر العربي والأدب أدى إلى حدوث دراسات أدبية خاصة بكل عمل، فكل نص يستحضر وسيلة الاستدعاء، يتطلب ناقدًا متمرسًا في سبيل تحليل الدلالة التي وُجهت واستخدمت في النص.[٤]
هناك الكثير من الشعراء الذين استعانوا بتقنية الاستدعاء في شعرهم، مثال ذلك أبو تمام فهو من أكثر الشعراء استدعاء لشخصيات ما قبل الإسلام في شعره، وذلك يدل على ثقافته الواسعة، إذا كان يستدعي الشخصية ويولد صورًا وأخيلة مميزة في شعره، والبعض الآخر من الشعراء قاموا باستدعاء شخصيات الأنبياء والرسل، وذلك بقصد التشبيه أو الموازنة مع الممدوح، ومن هؤلاء الشعراءك والمتنبي وأبو تمام والبحتري، إذ يعد المديح من أبرز الأغراض الشعرية التي تقصد الشعراء باستدعاء الشخصيات المختلفة، وبعض الشعراء اكتفوا باستدعاء الشخصيات الدينية وذلك بسبب ميولهم الدينية مثال ذلك أبي العتاهية، ومحمود الوراق، والبعض الآخر من الشعراء قاموا بقلب حقيقة الشخصية المستدعاة فلم يكتفوا بوصفها الجقيقي فقط، بل أضافوا من عندهم فعكسوا ملامح الشخصية وإطارها العام، مثال هؤلاء: دعبل الخزاعي، وأبو تمام، وابن الرومي، والمتنبي، إذًا فالشخصيات التاريخية لم تغب عن ذاكرة العصور التي لحقتها، فالعصور حافظت على ترابطها من خلال الاستدعاء لتظهر العلاقة الوثيقة بين الشعراء وموروثهم الثقافي، وهذا أيضًا ما نجده عند الشعراء المحدثين، مثال ذلك: أمل دنقل، أبو نواس؛ إذ أكثر في شعره من ظاهرة الاستدعاء خاصة من الشخصيات الدينية، وكان ذلك سبيلًا في توجيه معناه وإبراز ثقافته، ورفد أشعاره، كذلك نجد في الشعر الساخر، أو كما يسمى بشعر الذمّ، فكان الشعراء يتقرّبون من ظاهرة الاستدعاء من أجل توجيه الدلالة التي تشدّ من التقليل بحق من يسخر منه، فكان الاستدعاء سبيلًا في التأثير واكتمالًا للصورة الفنية، فالغاية التي يسعى لها كل أديب هي التأثير بالجمهور المتلقي، فيزيد أثر الاستدعاء من إتقان العمل الأدبي وتوجيه دلالته، فمثلًا إذا أراد الشاعر الكتابة عن الظروف المحيطة به كالظروف السياسية والاجتماعية، فإنه بذلك يستفيد من تجارب الأمم السابقة، تلك الأمم التي مرت بظروف مشابهة لظروفه، وإذا أحسّ بالظلم أو الاستبداد التي تقوم به السلطة فهو يفتّش عن شخصيات يستخدمها كالقناع فيتخفى خلفها.[٥]
ولا بد أن تكون هذه الشخصيات قد عاشت تجربته، وعبرت عن الرفض والتمرد، فالكاتب أو الشاعر هو يستدعي الشخصيات ليحقّق غرضًا في نفسه، فتكون الشخصية بمثابة القناع والحجاب الذي يصرخ الكاتب من خلفه للتخفيف عما يشعر به، أو ربما هو يعبر من خلفه عن عواطفه وأحاسيسه، فكثيرًا من الشعراء والأدباء استدعوا شخصيات من الماضي، فمثلًا استدعاء عنترة وعبلة، دليل على شعور الشاعر الذي يشابه عنترة، فهو يصف محبوبته ويعبر عن ما يدور في داخله، ولكن بواسطة قناع، كان هذا القناع بمثابة التوثيق الحيّ عمّا يشعر به، ذلك التوثيق الذي يوجه الدلالة بأدق تعبير ممكن.[٥]
الاستدعاء في شعر محمود درويش نموذجًا
اهتم الشعر الحديث بالتراث، إذ يعدّ من أغنى المصادر التي يعتمد عليها الشعراء، وتكمن أهمية التراث بأنه غنيّ بالدلالات والمضامين المختلفة التي تساعد الشاعر في التعبير عن نفسه، وتختلف المصادر التراثية وتتعدد، فهناك مصادر تراثية دينية، ومصادر تراثية تاريخية، ومصادر تراثية أسطورية، ومصادر تراثية شعبية، ومصادر تراثية أدبية، ويختلف كل شاعر عن غيره في توظيف هذه المصادر واختيارها، ومن هؤلاء الشعراء الشاعر محمود درويش، إذ كانت له علاقته الوثيقة بالتراث، ومن المعروف أنّ الشاعر محمود درويش لديه الكثير من القصائد الشعرية التي حصلت على جوائز مختلفة، إذ كتب الشعر منذ طفولته، وكان يقتدي ببعض الشعراء مثال ذلك نزار قباني، ورويدًا رويدًا تطوّر شعرُه، ونُشر وزاد عدد مُحبّيه، والقراء حوله، وذلك يعود إلى تميزه واعتناءه بتطور أسلوبه، فأخذ يتعمق بالشعر ويستخدم دلالات شعرية أكثر، وزاد استخدامه للتاريخ، والدين، والأدب، سميح القاسم[٧]، وهما من شعراء المقاومة والثورة، فكان استدعاء الشخصية بسبب التشابه والموازنة بينهما، فامرئ القيس دافع في تجربته عن وطنه وإعادة الملك أمام بني أسد، كذلك محمود درويش وسميح القاسم في مواجهة العدو الصهيوني ومقاومته.[٨]
ومن أمثلة الاستدعاء في شعر محمود درويش، استدعاء شخصية جميل بن معمر أو جميل بثينة في شعره مرة واحدة وهي في قصيدة أنا وجميل بثينة، فوازن درويش بينه وبين الشخصية، وخاطب القراء بالحديث عن الشخصية، فوظف هنا جميل بثينة الشعر العربي مفهوم الالتزام بالأدب عند الشعراء، ذلك الالتزام الذي يدعو إلى أن يشارك الشاعر الناس بهمومهم، ومواقفهم الوطنية، حتى لو كان هذا الموقف يُعبّر عن الشاعر نفسه، فالاستدعاء حقق خدمة الأدب في سبيل الأدب، فكان الحفاظ على تراثنا وأدبنا حتى عصرنا الحاضر من أسمى ما دلَّ على استخدام الشعراء وتوظيفهم للاستدعاء، وبذلك ظهر الالتزام الصادق بالأدب.[٩]
المراجع[+]
- ↑ أحمد رضا، متن اللغة، بيروت: دار مكتبة الحياة، صفحة 419، جزء 2. بتصرّف.
- ↑ علي عشري زيد (1997)، استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، القاهرة: دار الفكر العربيّ، صفحة 13. بتصرّف.
- ↑ "التناص من دواعي البيانن (2)"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 11-05-2020. بتصرّف.
- ↑ "تناص"، www.marefa.org، اطّلع عليه بتاريخ 11-05-2020. بتصرّف.
- ^ أ ب ت محمد رافع القاضي (2020)، استدعاء الشخصيات التاريخية في الشعر العباسي (الطبعة 1)، الأردنّ: دار الخليج للنشر والتوزيع، صفحة 221. بتصرّف.
- ↑ "من هو محمود درويش - Mahmoud Darwish؟"، www.arageek.com، اطّلع عليه بتاريخ 11-05-2020. بتصرّف.
- ↑ "أُسميك نرجسة حول قلبي"، www.aldiwan.net، اطّلع عليه بتاريخ 11-05-2020. بتصرّف.
- ^ أ ب علي نظري، يونس وليئي، استدعاء شخصيات الشعراء في شعر محمود درويش (الطبعة 15)، مجلة دراسات الأدب المعاصر، صفحة 27. بتصرّف.
- ↑ "مفهوم الالتزام في الأدب"، www.saaid.net، اطّلع عليه بتاريخ 11-05-2020. بتصرّف.