بحث-عن-حجة-الوداع
محتويات
الحج
من فضلِ الله على عبادِه أنْ جعل لهم مواسمَ للطاعات، يستكثرون فيها من العمل الصالح، ويتنافسون فيها فيما يقرّبهم إلى ربهم، والسعيدُ من اغتنم تلك المواسم، ولم يجعلْها تمرُّ عليه مرورًا عابرًا، فمن هذه المواسم الفاضلة موسم الحج، فحث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حفظ اللسان والجوارح، وهذا يستدعي من العبد أن يجتهد في الحج لكي يناله من الخير الكثير؛ فيعود كما ولدته أمه، فكما قال -صلى الله عليه وسلم- " مَن حَجَّ هذا البيتَ، فلم يرفُثْ ولَم يفسُقْ، رجعَ كما ولدَتهُ أمُّهُ" [١]، فالاجتهاد الاجتهاد. في هذا المقال سيتم التحدث عن حجة الوداع ومضمونها وتاريخها.
حجة الوداع
في السنة العاشرة من الهجرة يؤذِن رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بالناسَ للحج، فتزدحم المدينة ببشر كُثر، كلهم يريد أن يأَتّم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويصحبه في الحج، فخرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- من المدينة بعد صلاة الظهر من يوم السبت السادس والعشرين من شهر ذي القعدة، ثم نزل بذي الحليفة فأقام بها يومه وبات بها ليلته؛ حتى يتتابع إليه الناس ويدركه من بعد عنه، فلما أصبح قال: "أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: صلّ في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة" [٢]، ثم تهيأ النبي -صلى الله عليه وسلم- لإحرامه، أشعر هديه وقلده، اغتسل ولبد رأسه، وتطيب من كفي عائشة -رضي الله عنها- بأطيب الطيب، ثم لبس إحرامه وصلى الظهر، ثم استقل راحلته على غاية من التواضع والخشوع، والتعظيم والخضوع.
وعندما انبعثت به راحلته استقبل القبلة، وحمد الله وسبح وكبر وأحرم بالحج ولبى: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. بعد ثمانية أيام، وصل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة، ولما قَرُب من مكة بات عند بئر "ذي طوى" في المكان المعروف اليوم بجرول أو آبارِ الزاهر؛ ليستريح من نصب الطريق ووعثاء السفر، فلما أصبح اغتسل ثم دخل مكة ضحى يومِ الأحد من ثَنِيَّة كَداء، وهي التي تنزل اليوم على جسر الحَجون، فأناخ راحلته عند المسجد، ودخل من باب بني شيبة، فيسير نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلى الكعبة المشرفة، فيستلم الحجر الأسود ويكبر فتفيض عيناه بالبكاء، ثم يضعُ شفتيه عليه فيقبلُه، ثم يطوف بالبيت سبعة أشواط، فلما فرغ من طوافه مشى إلى مقام أبيه إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، ثم عاد إلى الحجر فقبله، ومسحه بيديه ثم مسح بهما وجهه، ثم توجه إلى الصفا فصعده، حتى نظر إلى البيت فاستقبله وكبر وهلل ورفع يديه ودعا، وكرر الذكر والدعاء ثلاثًا، ثم نزل فلما انصبت قدماه في بطن الوادي أسرع واشتدّ في السعي، حتى إن إزاره ليدور على ركبتيه من شدة السعي. فلما وصل إلى المروة رقيها، وصنع كما صنع على الصفا، ثم أتم سعيه راكبًا، فلما قضى سعيه أمر من لم يسق الهدي من أصحابه أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، ثم سار بمن معه حتى نزل بالأبطح شرق مكة، فنزل بالناس وأقام بهم أربعة أيام، يومَ الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء.
فلما كان ضحى الخميس اليومِ الثامن يومِ التروية، ركب نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلى منى، وخرج معه الصحابة الذين كانوا قد حلوا مهلين بالحج، وفي منى صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر يقصر الرباعية ركعتين ويصلي كل صلاة في وقتها، وكأنما كان هذا النفير تهيئةً وإعدادًا للنفير الأكبر إلى عرفات، وبات -صلى الله عليه وسلّم- بمنى ليلة التاسع، فلما أشرقت شمس اليوم التاسع، خيرِ يوم طلعت فيه الشمس، يومِ الجمعة يومِ عرفة، سار الركب الشريف من منى إلى عرفات، حتى وصل إلى نَمِرة فإذا قبة قد ضُرِبت له هناك، فجلس فيها حتى زالت الشمس، ثم ركب راحلته القصواء، ونزل بها إلى بطن وادي عُرَنَة، فاجتمع الناس حوله في بطن الوادي، وهو على راحلته. [٣]
مضمون خطبة حجة الوداع
عند وصول النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عرَفات في حجة الوداع خطب في الناس خطبة حجة الوداع التي فيها مِن الدروس ما فيها، والتي يشعُّ منها النور، فلو تدبَّرها المسلمون وعملوا بما فيها، لكانت سببًا لسعادتهم في الدنيا والآخِرة، فسيتم التحدث عن نص خطبة حجة الودع ثم مضمون الخطبة من دروس مُستفادة. [٤]
نص خطبة حجة الوداع
"إنَّ دماءَكم وأموالَكم عليكم حرامٌ كحُرْمَةِ يومِكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدِكم هذا، ألا إنَّ كلَّ شيٍء من أمرِ الجاهليةِ تحتَ قدمي موضوعٌ، ودماءُ الجاهليةِ موضوعةٌ، وأولُ دمٍ أضعُه من دمائِنا دمُ ربيعةَ بنَ الحارثِ بنِ عبدِ المطلبِ، وربا الجاهليةِ موضوعٌ، وأولُ ربًا أضعُ من رِبَانَا ربا العباسِ بنِ عبدِ المطلبِ، فإنَّهُ موضوعٌ كلُّه، فاتَّقوا اللهَ في النساءِ، فإنَّكم أخذتموهنَّ بأمانةِ اللهِ، واستحللتُم فروجَهُنَّ بكلمةِ اللهِ، وإنَّ لكم عليهنَّ أن لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أحدًا تكرهونَه، فإن فعلْنَ ذلك فاضربوهنَّ ضربًا غيرَ مبرِّحٍ، ولهنَّ عليكم رزقُهُنَّ وكسوتُهُنَّ بالمعروفِ، وإني قد تركتُ فيكم ما لن تضلُّوا بعدَه إن اعتصمتُم به، كتابَ اللهِ، وأنتم مسؤولونَ عنِّي، فما أنتم قائلونَ ؟ قالوا نشهدُ أنَّكَ قد بلَّغْتَ وأدَّيْتَ ونصحتَ، فقال: اللهمَّ اشهَدْ". [٥]
الدروس المستفادة من حجة الوداع
- بيَّن النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حُرمة الدماء والأموال، ووضَّح أن هذه الحُرمة تُساوي حُرمة اليوم والشهر والبلد، ومعلومٌ أن حُرمة البلد الحرام -وهو مكة- حُرمةٌ عظيمة، وحُرمة الشهر الحرام -وهو شهر ذي الحجَّة- حرمة عظيمة؛ فالله -سبحانه وتعالى- جعَل عدَّة الشهور اثنَي عشر شهرًا، منها أربعة أشهر حرمًا، فالأَشهُر الحرُم هي: ذو القِعدة، وذو الحَجَّة، والمُحرَّم -ثلاثة أشهر مُتواليات- ورجب، فهذه أربعة أشهر حرُم لها حُرمَة عظيمة، فحُرمة الدِّماء والأموال حُرمة شديدة وعَظيمة.
- وضَع النبي -صلى الله عليه وسلم- كلَّ شيء مِن أمر الجاهلية، فكل شيء مِن أمر الجاهليَّة باطل، فالإسلام قد أبطَل أمور الجاهليَّة، فلا كِبر، ولا بطَر، ولا أشَر، ولا لوأْد البنات (دفنهنَّ أحياء)، ولا فضْل لقبيلةِ كذا على قبيلةِ كذا، ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح.
- المُعامَلة الحسَنة مع النساء، فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: فأمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بتقوى الله تعالى في النساء، وعلَّمنا أن نؤدي الحقوق التي علَينا قِبَل النساء، وبيَّن لنا -عليه الصلاة والسلام- أن أصل الفروج حرام بقوله: [٦]، فالأصل أن الفروج حرام، ولا يحلُّ منها إلا ما أحله الله - تعالى - وقد أمَرنا الله -تعالى- بغضِّ الأبصار.
- الاعتصام بالقرآن والسنة، فقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- فالاعتصام بالكتاب والسنَّة فيه النجاة مِن كل شرٍّ وسوء، فإذا أراد المسلمون الثبات على الهداية، فعليهم أن يتمسَّكوا بالقرآن والسنَّة، والقرآنُ الكريم والسنَّة المشرَّفة فيهما سعادة مَن تمسَّك بهما في الدارَين (الدنيا والآخِرة).
- بعدما بيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما بيَّن في خطبته، قال للصحابة: "وأنتم تُسألون عني، فما أنتم قائلون؟!" قالوا: "نشهد أنك قد بلَّغتَ رسالات ربك، وأدَّيت، ونصَحت لأمَّتك، وقضيتَ الذي عليك"، فقال بإصبعه السبابة، يَرفعها إلى السماء ويَنكتها إلى الناس: "اللهم اشهَد، اللهم اشهَد". [٥] وفيه دليل على أن الله -عز وجلَّ- في السماء، هذه هي العقيدة الصحيحة والإيمان الموافق للكتاب والسنَّة، ولا نقول كما يقول بعضهم: الله في كل مكان، أو أن الله ليس له مكان، كلُّ هذه اعتقادات باطلة؛ لأن القرآن والسنَّة فيهما شفاء لما في الصدور.
تاريخ حجة الوداع
بعد أن أتم النبي -صلى الله عليه وسلم- إبلاغ الرسالة وفُتحت مكة، دخل الناس في دين الله أفواجًا، ففرض الله الحج على الناس وذلك في أواخر السنة التاسعة من الهجرة، فعزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الحجّ وأعلن ذلك، فتسامع الناس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد الحج هذا العام، فقدم المدينة خلق كثير كلهم يريد أن يحج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن يأَتّم به، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المدينة في الخامس والعشرين من ذي القعدة من السنة العاشرة للهجرة، وانطلق بعد الظهر حتى بلغ ذي الحليف، ثم واصل السير، فلما قرب من مكة، نزل بذي طوى، وبات بها ليلة الأحد من اليوم الرابع من ذي الحجة، ودخل مكة نهارًا من أعلاها، فلما دخل المسجد الحرام طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، وأقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بمكة أربعة أيام من يوم الأحد إلى يوم الأربعاء.
وفي ضحى يوم الخميس الثامن من ذي الحجة توجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمن معه من المسلمين إلى منى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، وهو موضع بالقرب من عرفات وليس من عرفات، فسار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نزل بنمرة، ولما زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن وادي عرنة، وقد اجتمع حوله الألوف من الناس، فخطب الناس خطبة الوداع. [٧]المراجع[+]
- ↑ الراوي: أبو هريرة، المحدث: الألباني، المصدر: صحيح النسائي الصفحة أو الرقم: 2626، خلاصة حكم المحدث: صحيح
- ↑ الراوي: عمر بن الخطاب، المحدث: البخاري، المصدر: صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 2337، خلاصة حكم المحدث: صحيح
- ↑ خطبة ( مع النبي في حجة الوداع ), ، "www.saaid.net"، اطُّلع عليه بتاريخ 17-08-2018، بتصرّف
- ↑ الدروس المستفادة من خطبة النبي في حجة الوداع, ، "www.alukah.net"، اطُّلع عليه بتاريخ 17-08-2018، بتصرّف
- ^ أ ب الراوي: جابر بن عبدالله، المحدث: الألباني، المصدر: صحيح الجامع الصفحة أو الرقم: 2068، خلاصة حكم المحدث: صحيح
- ↑ واستحللتُم
- ↑ حجة الوداع, ، "www.islamweb.net"، اطُّلع عليه بتاريخ 17-08-2018، بتصرّف